وأخيراً قررت وزارة التجارة رفع الدعم الحكومي عن الأرز بنهاية هذا الشهر... هذا الدعم الذي لم يستفد منه سوى المستوردين والتجار والمصدرين الأجانب ولم يكن له تأثير كبير على جيب المواطن نفسه .. غير أنني أعترف في المقابل بأن هذا الدعم كان له تأثير نفسي حميد عمل على تهدئة خواطر المواطنين إبان أزمة الغذاء العالمية وموجة الغلاء التي طالت كل شيء يومها !! وما يهمني (اليوم) هو العودة للخلف والتعلم من الدرس والتذكير بأن هذا الموضوع مثل مواضيع كثيرة أخذ حينها حيزا أكبر من حجمه وتحول في أيدي البعض إلى سوط رعب انتهى ببعض المواطنين لتخزين أكياس الأرز في بيوتهم .. ورعب الأرز هذا مجرد مثال على دخول مجتمعنا في (موضات) مبالغة وتذمر يصعب الوقوف أمامها أو قول شيء يخالفها حين تبلغ أوجها .. فمن كان يستطيع مثلا الوقوف أمام حملة التحريض ضد المجتمع الدانمركي وأخذ الكل بجريرة الجزء .. من كان يستطيع حينها الوقوف أمام حملات التهويل والمبالغة ضد شخصيات كرتونية تافهة ك"البوكيمون" و "أبطال الديجتال" .. من كان يجرؤ قبل عقد أو عقدين على المطالبة بفتح الإنترنت أو السماح بكاميرا الجوال أو قنوات البث الفضائي التي أصبح المعارضون لها في الماضي أبرز روادها في الحاضر؟ مايحدث دائما أننا نختار قضية جزئية (وأحيانا صغيرة وتافهة كالحداثة قديما والسينما حديثا) فنضخمها ونكبرها لدرجة ربط مصير المجتمع بها والتحذير من خراب الدنيا بسببها .. وحين نمل منها ومن الدعوات لمقاطعتها نتجاهلها وننساها ثم نختار غيرها ونعيد الكرَة مع "منتج" جديد... هذه التذبذبات الحادة بين "الاعتراض الصاخب" و"النسيان التام" دليل على تمتعنا بأمزجة عاطفية حادة وسهولة انقيادنا لأصحاب الأجندات الخاصة .. وحين ارتفعت أسعار الأرز في الماضي لم تكن المشكلة في الأرز كمادة أو الغلاء كظاهرة (حيث طال التضخم كل شيء حينها) بل في استغلال هذا الارتفاع كعامل تأجيج وطني وإعلامي استفاد منه كل طرف بطريقته .. ولكن المحصلة هي تلاعب الجميع بمشاعر المواطن البسيط ورسم عالم بدون أرز سينتهي بموته وموت أطفاله جوعا .. وفي المقابل استسلم المواطن نفسه لهذه المخاوف ولم يستعمل آلته الحاسبة ليدرك أن الأرز ارتفع بمتوسط 70 هللة لكل كيلوغرام (وهي زيادة تعني أن الأسرة التي تستهلك ثلاثين كيلو جراما في الشهر تدفع زيادة قدرها 21 ريالا فقط ، وهو ما يعادل 252 ريالا في العام ) !! .. ماذا تساوي 252 ريالا في العام مقابل فاتورة جوال أو كهرباء أو قسط سيارة أو راتب شغالة يدفعها المواطن كل شهر .. ماذا تساوي 252 ريالا أمام حفلات وعزايم و"مفاطيح" يرمي أكثر من نصفها في الزبالة ثم يعود ليقترض من البنك مجددا .. مافعلته الدولة بتقديم إعانة الأرز كان ضروريا لإسكات حملات المبالغة والتخويف التي لم تكن تساوي فاتورة هاتف أو تغيير زيت السيارة .. واليوم وبما أننا خرجنا من موضة غلاء الأرز حان الوقت لاتخاذ القرار الصحيح وترك سوق السلع لقانون العرض والطلب الذي سينتهي حتما لمصلحة المستهلك .. وبرفع هذا الدعم تصبح الخيارات المتاحة أمامنا جدا بسيطة وواضحة : فإما كنت قادرا على دفع فرق السعر بالهلل ، أو معدما وتعتبرها فرصة للبحث عن بديل صحي أفضل من الأرز... وهذا بدون شك أفضل من أن نبقى كلنا أسرى لسلعة نعجز عن زراعتها !