كتبتُ مرّة عن أبي: عاش مثل صقر حتى عندما مات ذهب وحده إلى المقبرة . تذكرت هذا المقطع حين سمعت برحيل المفكر الكبير كلود ليفي ستروس. تزامن رحيله مع نداءات سياسية قاصرة تدعو إلى الدفاع عن " الهوية الوطنية الفرنسية"، استعداداً للانتخابات الإقليمية التي يحرص اليمين على الفوز بها وبناخبي الجبهة الوطنية لليمين المتطرف. رحل هذا الأستاذ الكبير وهو يعلن خيبته من العالم الذي أَحَبَّه. رحل مثل صقر بعد أن عاش مائة سنة من العطاء المعرفي الذي لايمكن لأي باحث في العلوم الإنسانية أن يقوم على قدميه بدونه. برحيل هذا العالم الشاسع تبدو فرنسا أرملة ، بلا أساتذة ، بلا أضواء تبدو عارية من سلطتها المعرفية التي هيمنت على قطاع العلوم الإنسانية في العالم على مدى عشرات السنين. رحل الأساتذة ولم يبقَ إلا التلاميذ. رحل مثل صقر ، بعد أن أعاد للحضارات البدائية وأبنائها أهميتها ، بعد أن حاول من سبقه من المفكرين والعلماء إيهامنا بأن هذه الثقافات ليست إلا مرحلة بائسة في تاريخ الإنسان. جاء كلود ليفي ستروس ليقول إنها "حضارات" وإنها أصل العالم ، وإنه لايمكن فهم العالم إلا بقراءتها والحفاظ عليها وعلى أهلها ومكوناتها ورموزها. قبل كلود ليفي ستروس ، كان العالم يتنكر لأصله وجذوره. بل ويبيد ما تبقى من بشر ومعالم تذكِّره بتلك المرحلة من عمره ، وبعد كلود ليفي ستروس أصبحت تلك الفترة من عمر الإنسان جزءاً لايتجزأ من عمر العالم ، وكأنّ هناك تاريخين للمعرفة ، ما قبل كلود ليفي ستروس وما بعده . وقبله رحل ميشيل فوكو ، ورولان بارت ، ورحل مؤسس التاريخ الحديث فرناند بروديل هذا الأخير الذي أعاد لأبناء البحر الأبيض المتوسط بضفّتيه تاريخهم وهويتهم ، هو الذي كان يقول إن البحر الأحمر هو البحر الأبيض المتوسط الثاني. كم تبدو فرنسا صغيرة برحيل هؤلاء الكبار ، وكم يبدو العالم بائسا كما رآه كلود ليفي ستروس قبل رحيله.