لم تكن بريدة المدينة المتميزة تختلف كثيراً عن مثيلاتها مدن الجزيرة الكبرى التي تدرك أبعاد ما يحمله هؤلاء المستشرقون من نوايا تبشيرية أو تجسسية تتمثل في دراسات تمهيدية للتركيبة السكانية وهي تمهد للجيوش الاستعمارية في احتلال مناطق الثروات الاقتصادية والإستراتيجية بل إن بريدة كانت تمثل حينها إحدى أبرز أوجه الحضارة في المنطقة بما تمتلكه من علماء أجلاء واتصال مباشر بالعالم الآخر من خلال قوافلها التجارية .فكان أمراً طبيعيا أن لا ترحب برحالة مثل الدانمركي ( باركلي رونكيير ) عام 1912م والذي انكشفت نواياه السيئة فيما بعد. وهو نفسه ما اعتبر وصوله إلى بريدة انجازاً تاريخياً بكى له طويلاً على بوابة المدينة مثلما بكى له بعض إدلائه حتى وإن فرض عليهم نوع من الإقامة الجبرية ولم يسمح له بمغادرة قصر الحاكم أو دخول المدينة مما دفعه إلى شتم المدينة وبعض رجالها واستخدام ألفاظ تهكم غير مؤدبة طالت حتى مضيفه أمير المدينة تجاوزنا الكثير منها لبعدها عن الحقيقة. كان قد دخلها من جهتها الشرقية قادما من الكويت مرورا بالزلفي والشماسية وهو في طريقه إلى الرياض وواجه صعوبة بالغة في القدرة على دخول المدينة العذراء عندما اكتفى بوصف بقاءه بقصر الحاكم فقط والتفاوض مع أميرها فهد بن معمر تسهيل مهمته للرحيل للرياض والذي نستعرضه في عدد من الحلقات قال في الأولى: الوقت الآن الظهر، يجلس علي بشكل دائم في أحد أركان الغرفة بينما يجلس قبالته أحد رجال الأمير فهد بعباءته السوداء وشماغه الأزرق، وضع فهد الكحل في عينيه وحواجبه مما جعل منظره يبدو لي أكثر تجهماً، كان يجلس على ركبتيه ويتكئ على بندقيته ويراقبنا بصمت. كان الذباب في السقف يقوم برقصات غريبة ويرسل طنينه الذي ينخفض ويرتفع طبقاً لحدة طيرانه. ومن الطاقة الموجودة في الحائط تسلل وميض نور من أشعة الشمس، كان يتحرك ببطء غير محسوس عبر الحائط المقابل وانكسر الصمت فجأة بأصوات صياح أتت من الخارج تبعها فورا طرق باب شديد إنهم مجموعة من الرجال يريدون الدخول علينا عنوة ويبعدهم فهد بعيدا عن الباب مستخدما عقب بندقيته، ومرة أخرى يسود الصمت وطنين الذباب. يطرق أحدهم الباب من جديد يفتح فهد ليدخل عبدالعزيز ورجل آخر من رجال الأمير كان عبدالعزيز يرخي رأسه ويهمهم وما لبث أن رمى نفسه أرضاً وأسند رأسه إلى الجدار وراح يبكي بهدوء وجسمه كله يهتز، استنتجت أن مقابلته مع الأمير لم تكن على ما يرام، جاء بعد ذلك أحد مطوعي الأمير واسمه مبارك كان وجهه سمحاً ويلبس عباءة سوداء مقصبة ويتمنطق بخنجر فارسي، حيانا بأدب إلا أن وجهه بقي ينطق بعدم تقبله لنا، أصدر بعض أوامره لرجال الأمير بصوت خفيف صارم ثم أمر علياً أن يتبعه، ومرة أخرى يغلق الباب خلفهم ومرة أخرى أجد نفسي مع وحدتي بينما فهد يقوم بدور المراقب وعبد العزيز يبكي وشعاع الشمس يتحرك فوق الجدار والذباب يستمر في طنينه في جو الغرفة الترابي . بريدة قديما كنت أتساءل كيف يتصرف علي الآن فيما يتعرض له أياً كان، أخيرا عاد الملا ومبارك ومعهما علي الذي توقف عن البكاء واتخذ مظهرا جادا وهادئا، طلب مني الآن أن نذهب لمقابلة الأمير كان ينتظرنا في الخارج رجال مسلحون لمرافقتنا. سرت في وسطهم وكانوا يحيطون بنا بشكل يجعل إطلاق النار علينا من أي نقطة من فوق السطوح صعباً وقد يصيب أولئك الرجال المسلحين دون إصابتنا. كان هناك رجال آخرون من حرس الأمير يسيرون أمامنا وبأيديهم عصي طويلة يبعدون عنا الفضوليين شاهدنا جملين عاريين من الشعر يتمرغان في التراب. طرق علي باباً مواجهاً للقلعة ففتحه زنجي أسود. عبرنا ردهة، وجدنا أنفسنا في قاعة استقبال الأمير. أنها قاعة مربعة واسعة تضيئها فتحات مثلثة جعلت في جدرانها. أرض القاعة مغطاة بالحصر والمفارش وعلى جدرانها علقت السيوف والبنادق. حيث يضعها الحراس عند ما يدخلون القاعة، يجلس على الأرض متكئاً على بعض المساند (أمير بريدة) فهد بن معمر وأمام الأمير يوجد وجار وبجانبه رجل اسود يحضر القهوة وعلى جانبي القاعة يجلس رجال الأمير وإتباعه في صفين طويلين يشاهدون القادمين الغرباء بفضول.تبادلنا التحيات وجلست انا وعلي بجانب الأمير. أمير بريدة رجل متوسط العمر وعادي بكل المقاييس، شعره أسود مجعد ينحدر على كتفيه دون تجديل. إحدى عينيه كريمة. وشفتاه غليظتان ووجهه منتفخ وأصابعه وارمة يحمل بيده مسبحة ذات حبات زجاجية كبيرة صفراء . نظر بعينه السليمة إلى ضيوفه بينما سقط خيط من الضوء على عينه الأخرى، ثم حرك شفتيه الضخمتين الرطبتين وبدأ استجوابه الحاقد لي: من أنت..؟ من أين أتيت..؟ لماذا أتيت إلى نجد..؟ هل أنت انجليزي ..؟ هل تعرف والي البصرة..؟ هل تأخذ صوراً فوتوغرافية ..؟ هل أنت طبيب ..؟ هل تجمع حجارة أو نبات من البلاد..؟ ماذا تريد من بن سعود..؟ هل زرت أي مكان في القصيم..؟ هل تسجل ما تشاهده في كتب..؟ ما اسم المكان في القصيم الذي يوجد فيه الذهب..؟ كيف تجرأت الدخول إلى بريدة وأنت غير مؤمن.؟ من أرسلك إلى هنا؟..الخ ..الخ.. ( يتبع ) المرجع: عبر الجزيرة العربية على ظهر جمل