تُدرك الإسلاموية في أعماقها أن تاريخنا لم يكن مجيدا في حقيقته ؛ كما حدث فعلا، لم يكن مجيدا بالدرجة التي يُمكن أن نفاخر به أية أمة في الماضي؛ مهما كان تواضع منجزها الحضاري، فضلا عن أن نفاخر به الحضارة المعاصرة. عن الإسلاموية تعي هذه الحقيقة جيدا، لكنها مع هذا تلجأ إلى التاريخ بعد تزييفه؛ لأنها تدرك أن الآخر في ذلك الزمن الغابر، أي في تاريخه، لم يكن متفوقا بمثل هذه الدرجة الجارحة التي هو عليها الآن، لم يكن متفوقا بمثل هذا الواقع المؤلم الذي يتكرر في كل أوجه التقابل بين الأنا والآخر، والذي تتحطم على زواياه الحادة كبرياء الأنا؛ بعد أن تم شحنها بكل أوهام الكبرياء. تهرب الإسلاموية من المقارنة بين حاضرنا وحاضرهم؛ لإحساسها بالفارق الهائل، لكنها تُحبّذ المقارنة بين ماضيين: بين ماضي الأنا؛ بعد إجراء (عمليات تجميل) واسعة عليه، وبين ماضي الآخر؛ بعد إجراء (عمليات تشويه) واسعة عليه أيضا. وطبعا، لا تُكتَشف عمليات التجميل (= عمليات التزييف)؛ رغم أن الجراح ( = المفكر الغفوي ) الذي قام بها ليس أمهر من (حلاّق الحارة) في العصر المملوكي أو التركي؛ لأن ثقافة التجهيل المتعمد قد وضعت الأساس النفسفكري ل( قَطْعَنَة ) الجماهير، بحيث لا تسأل الجماهير الغفوية عن حقيقة ما يقوله سدنة التقليد والتبليد. إن الإسلاموية لا تستطيع تزييف الحاضر؛ لأنه مُشاهَد وعَيني، لأنه واقع ماثل، واقع فاقع الألوان، بحيث يفضح بكل تفاصيله تخلّف وانحطاط، بل وبدائية الذات. إنكار هذا الواقع / الحاضر مستحيل، ولا تستطيعه البلاغيات التقليدية؛ مهما تعالى صراخها وطال عويلها. ولهذا تهرب الإسلاموية إلى ماض غير مشاهد، ماضٍ غائب، ماض لم يبق منه لا عين ولا أثر، ماضٍ يسهل تزييفه؛ لأنه غير موجود، ماض يُفترض افتراضا ! أنه زمن حضاري وجميل ورائع، بل وإنساني !. يسهل التزييف؛ لأن لا أثر يحكم بطلان الدعوى، ويسهل التزييف أيضا؛ لأن هناك وعيا جماهيريا يرغب في أن يُصدّق هذا التزييف، وأن يجعله بديلا عن الحقيقة المؤلمة، حقيقة التخلف الكبير. إن مشروع الإسلام السياسي قائم على صناعة ماض موهوم، ماض مجيد يُمكن الالتجاء إليه والاحتماء به، ماضٍ يُداوي كبرياء الذات الجريحة، التي هي الأساس الشعوري لكل هذا الغضب المتمثّل في الإرهاب، لكل هذا الغصب الصادر عن الحسد؛ جراء مقايسة الأنا بالآخر. إنني هنا أقترب من تفسير الإرهاب كردة فعل صادرة عن جرح الشرف القومي. وهو التفسير طرحه المفكر الباكستاني: أكبر أحمد، إن بشكل يختلف قليلا عن رؤيتي الخاصة هنا، وذلك في كتابه: (الإسلام تحت الحصار). الدكتور: أكبر أحمد، يرى الإرهاب نتيجة (إهانة !) تجرح الشرف القومي، وأراه نتيجة حسد المقارنة الجارح للشرف القومي أيضا. وعلى هذا، وفي تصوري الخاص، يكون الإرهاب الإسلاموي الذي يتقصّد الغرب تحديدا بالعداء، ليس أكثر من نقمة مجموعة من الفاشلين الحاسدين لكل متفوق ماثل وحاضر أمامهم، لكل متفوق يمنحهم في كل لحظة، ومن غير قصد، مرارة التذكير بتاريخ مُحبط من الفشل الطويل. قراءتي لكتب التاريخ والتراجم، وفي وقت مبكر، كشفت لي ضخامة هذا الوهم الكبير. ومن ثمَّ، سقط الأساس الموضوعي لهذا المشروع في تصوري . لم أر في الماضي ما يجب استعادته، لم أر المستقبل في الماضي، لم أعد أحلم، كما يحلم الشيخ: محمد قطب شفاه الله إلى درجة الهوس، ب( قيادة البشرية )، ولا ب(الجيل الفريد) الذي لن يتكرر؛ لأنني أدركت من خلال قراءاتي لكتب التاريخ ولكتب التراجم، أن (قيادة البشرية) وهم كبير، صنعته العقليات العدوانية المتخمة بأحلام الغزو والسلب والاسترقاق، وأن (الجيل الفريد) لا وجود له، بل هو نتيجة النزوع الطبيعي للإنسان البدائي إلى أسطرة الرموز، النزوع إلى خلق بشر فوق مستوى البشر، أي أنه كان وهما كبيرا أيضا. الإسلام السياسي، يؤكد لمُريديه أن ثمة حضارة رائعة كانت له / لنا في الماضي الغابر، وأنها تراجعت نتيجة (تآمر!) الأعداء من الداخل والخارج. وبما أننا أحفاد الصيد الأشاوس، وقد كانت لنا ذات يوم حضارة مجيدة صنعها هؤلاء !، بل وكانت حضارة مثالية لا مثيل لها، فإنه يسهل علينا استعادتها؛ بمجرد عودة خاطفة إلى الوراء. التقدم وفق هذا المفهوم الإسلاموي ليس ابتداعا في الحاضر كما هو عند الغربيين الذين صنعوا حضارة حقيقية، ليس صناعة جديدة للمستقبل بقوة العقل الإنساني؛ كما تؤكده الحضارة الإنسانية اليوم (= حضارة الغرب)، بل هو في تصوّر أصحاب مشروع الإسلام السياسي مجرد: استعادة كربونية للماضي ، مجرد: عودة إلى حضارة ناجزة، مجرد: اتباع!. الإسلام السياسي يصنع الصور المثالية للرموز التاريخية ، ويتجنب إيرادها كما أوردتها كتب التاريخ والتراجم ؛ لأنها حينئذٍ لن تُؤدي الدور الإيديولوجي المطلوب، لن تكون ناجعة في الحشد والتجييش. لهذا يتم إسقاط ثلاثة أرباع الحقيقة التاريخية، وربما أكثر، ويُوضع مكانها التصور(المُفترض) بقوة الرغبات. حين يتم الكشف عن هذا التزييف، يسقط القناع، يسقط المشروع الإسلاموي الوهمي من الأساس. وهذا ما حدث لي ، بعد قراءة كتب التاريخ وكتب التراجم، والتعرف على الشخصيات في مصادرها الأصلية؛ دونما وسيط يتخذها مواد لصناعة قصيدة فخر عربية بالذات. اكتشفت بعد فترة خداع لم تطل، أن بؤس حاضرنا ليس إلا امتدادا طبيعيا لبؤس ماضينا، هذه الثمار التي نتجرعها الآن، هي من تلك الأشجار، وتلك الأشجار كانت من بذور كامنة، وكانت تحمل شفرتها الوراثية التي تظهر على قسمات الأجيال. اكتشفت حقائق بسيطة جدا، ولكنها كانت طافية لزعزعة جبال من القناعات الراسخة، اكتشفت حقائق يكتشفها الجميع، أو من المفترض أن يكتشفها الجميع. اكتشفت أن أسلافنا كانوا رجالا مثلنا، بل وأقل منا في كثير من الأحيان. اكتشفت أن أخطاءهم كانت كبيرة جدا إلى درجة تفوق تصوراتنا، وأنه لا يمنع من رؤيتها إلا وهم القداسة الراسخ ، اكتشفت أنهم كانوا نماذج أولية لتصرفاتنا العربية / الإسلامية المعاصرة ، اكتشفت أن الصورة في حقيقتها، هي عكس ما صوّره لنا أصحاب المشروع السياسي، اكتشفت مبكرا لحسن حظي أنهم كانوا يُمارسون علينا أكبر عملية تزييف للتاريخ؛ كي يتمكنوا من تزييف ( واقعنا المعاصر) ؛ كي يتمكنوا من توظيفنا كمادة استعمالية لمشروعهم الخاص !. كون هذا التزييف، كما تمارسه الكوادر الفكرية الإسلاموية، يتم بحسن نية، لا يمنع أن المشروع كان سيء النية، وكارثي النتائج. قد تكون الكوادر مجرد أدوات غير واعية بيد المنطق الكلي للمشروع الذي يُمارس عملية توظيف آلي لمُريديه من حيث لا يشعرون. لكن، هذا لا ينفي وجود عملية التزييف كواقعة؛ بصرف النظر عن الرؤى التفصيلية للكوادر الفاعلة الممارسة لذات الفعل التزييفي. إنهم أي الكوادر الفكرية يعون طبيعة فعلهم بدرجات جِدُّ متفاوتة، وبتبريرات جِدُّ متباينة أيضا. وليس من العدل أن نُحاسبهم بالتساوي؛ كمسؤولين مباشرين عن عملية التزييف والتضليل. عندما أتحدث عن مشروع الراحل: عبدالرحمن رأفت الباشا رحمه الله وخاصة كتابه الذي يُصوّر فيه حياة الأجيال الأولى، والذي انتشر وقُرّر في كثير من المراحل التعليمية؛ فأصفه المشروع الساذج بالمشروع المُزَيّف، فأنا لا أتهم الشخص بسوء القصد ولا بتعمد التزييف، وإن كنت لا أنفي عنه طبيعة الفعل. الفعل كان تزييفا. ومن مَراجعه التي ينقل عنها، نعلم أنه اطلع على كل التفاصيل الخاصة بحياة الشخصيات التي يتحدث عنها في كُتيباته الحكواتية الدعائية. لكنه لا يذكر إلا الصورة الملائكية التي تخدم مشروعه: مشروع الإسلام السياسي. وهذا هو ما صنعه كثيرون قبله وبعده، ومنهم: محب الدين الخطيب، وخاصة في: ( الرعيل الأول ) وكذلك العمري، ومحمد قطب، وخاصة في كتابه: ( كيف نكتب التاريخ )، وهو الكتاب الذي يُحدد فيه صراحة ضرورة الانتقاء، بل ويُشدّد على أن نكتب التاريخ كما يجب أن يكون، وليس كما حدث فعلا. لا أنفي أن في تلك الكتب التاريخية وفي معظم كتب التراجم الكثير من الكذب وتعمد التشويه. لكن، من يقرأ العشرات منها، مع تعدد مصادرها، وتنوع توجهاتها، واختلاف انتماءات مؤلفيها، ثم يقرنها أيضا بما تُصوّره المصادر من حقول معرفية أخرى، يدرك ما وقع فعلا، وذلك من خلال التواتر المستفيض المؤيد بقرائن عقلية، بحيث يستحيل التزييف. قد تقع بعض الملابسات في بعض التفاصيل والجزئيات والحوادث الصغيرة، لكن تبقى الصورة الكلية محكومة بآلاف الشواهد والقرائن التي تُؤكد عكس ما يُصوره لنا المتأسلمون.