حاولتُ في المقال السابق ، وبقدر ما تسمح به فضاءات الحرية المتاحة في هذا السياق الثقافي الخاص بنا ، أن أُقارب العلاقة بين إرادة التقدم المرتبطة بالتنوير ضرورة ، وبين ضرورة تفكيك الأوهام التاريخية المرتبطة بالذات ، من أجل وعي أعمق بالذات . وأظن أنه قد اتضح ، ولو في حدود نسبية معقولة ! ، أن من لا يعي ذاته من خلال وعيه بتاريخه كما هو ، لا يمكن أن يعي مستقبله المأمول ، ومن ثم ، لا يستطيع التقدم خطوة واحدة حقيقية إلى الأمام. لقد بات من الواضح جدا أن النقد التاريخي الذي يعمل على تفكيك الأوهام ليس ترفاً ، ليس حاجة هامشية مرتبطة بهذا الميدان العلمي أو ذاك ، ليس أرضية لمناوشات مذهبية أو طائفية أو حركية ...إلخ ، بل هو ضرورة مستقبل يهم الجميع بلا استثناء . وأيضا ، بات من الواضح أكثر أن الذهنية الجماهيرية التي صنعتها التقليدية الاتباعية ، والتي تفكر بواسطتها الأغلبية الساحقة من الأمة العربية / الإسلامية لم تصل بعد إلى مرحلة الوعي بأهمية الفصل بين الكلام عن الذات بما يشبه قصيدة الفخر ، وبين الفحص العلمي التشخيصي (= النقدي) للذات. بل لقد اتضح ، وبصورة مقاربة إلى حد ما ؛ من خلال نموذج الاعتراض على مقال نقدي عابر (سبقت الإشارة إليه في المقال السابق) ، أن هذه الجماهير التي تمثل الأغلبية الساحقة (بما فيها من إعلاميين ودعاة وكتاب وأكاديميين تقليديين ومُدعي علم ...إلخ) لديها حساسية هوَسية صارخة تجاه كل أنواع المقاربات العلمية المحايدة التي لا تتعمد كتابة التاريخ بقلم شعاراتي دعائي يمنحه (= التاريخ) العصمة والتبجيل. إن أول شرط من شروط القراءة العلمية للتاريخ يتمثّل في أن تقرأ تاريخك بعد أن تنسى أنه تاريخك . لابد أن تضع تاريخك أمامك على طاولة البحث / الفحص / التشريح ؛ بعد أن تتخيله تاريخ أمة أخرى ، تاريخ أمة لا علاقة لك بها ، لابد أن تصنع ذلك الانفصال قدر الإمكان ؛ حتى لا تقف العاطفة التي يصنعها الانتماء ضرورة لا نلوم بطبيعة الحال الوعي الجماهري البسيط الذي تلقى معلوماته التاريخية عن طريق التاريخ المكتوب - مدرسياً بطريقة التصفية والفلترة وتمجيد الذات ، أو التاريخ المطروح - إعلاميا - بلغة الشعارات الجوفاء . بل لا نلوم الكتاب والإعلاميين الذين لم يطلعوا على الكتابات العلمية المحايدة التي مارست مهمة الفحص التشريحي للتاريخ ، وإنما نلوم أولئك المتقاطعين مع بعض الهموم المعرفية ، أولئك الذين لديهم اهتمامات علمية / بحثية ، ولو مؤدلجة ، وتمكنوا من الاطلاع على معظم الكتابات التي مارست مهمة تفكيك الأوهام ، وعرفوا الحقيقة أو جزءاً منها ، ولكنهم وضعوها في خانة : (الحقائق المكروهة) التي يجب - كما يتوهمون - طمسها ، أو حتى قلبها ؛ لتظهر بعكس ما هي عليه حقيقة (= أكاذيب محبوبة / مقبولة) ؛ حتى لا تتم تعرية الذات أمام الذات. إن أجرأ محاولات التزييف والتزوير كانت مع اجتياح طوفان (الزمن الغفوي) في الثمانينيات الميلادية لكثير من المجتمعات الإسلامية ، وتسربه إلى معظم ميادين الحياة ؛ حيث حاول بعضهم إعادة كتابة التاريخ من منظور إيديولوجي / إسلاموي (ما سُميّ بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي) تحت شعار تطهير التاريخ من دسائس الأعداء. لقد كانت هذه المحاولات الإسلاموية التي تتلبس الروح العلمية الأكاديمية ، لا تريد إعادة كتابة التاريخ من أجل غربلته من الأوهام أو من الأكاذيب أو الدسائس كما تدعي ، بقدرما كانت تريد كتابته وفق احتياج الحراك السياسي الغفوي ؛ رغم أنها كانت تُعلن وبصوت صاخب ، وخاصة في المقدمات التنظيرية ، أنها تبحث عن الحقيقة (= الحقيقة العلمية المحايدة) بين ركام هائل من أكاذيب قدماء المؤرخين الذين (شوهوا) التاريخ الجميل ، تاريخنا المجيد ، التاريخ المعصوم من الأخطاء !. كانت هذه الكتابات اللاعلمية (= التجميلية) التي صدرت حتى عن بعض الأقسام العلمية الأكاديمية أمرا متوقعا ؛ نتيجة اجتياح الطوفان الغفوي لكثير من أقسام الدراسات التاريخية في معظم جامعاتنا ، وإحساس دارس التاريخ أنه لا يمارس العلم ؛ بقدرما هو يمارس الجهاد بالقلم تمهيداً للجهاد بالسنان . أي أن العلم تحول من بحث عن الحقيقة إلى مهمة حربية أو شبه حربية ؛ لا أهمية للحقائق فيها إلا بقدر قابليتها للتوظيف في مهمات القتال. في تلك المرحلة الغفوية البائدة ، كانت مهمة المؤرخ الإسلاموي تتلخص في تزوير التاريخ صراحة ؛ تحت مسمى إعادة كتابة التاريخ الإسلامي ؛ حيث قدم كثيرون رسائل علمية (كما يسمونها!) تمارس تجميل / تزوير التاريخ . وهذا ما تنبّه له مُبكرا الشيخ المُحقق : حسن المالكي ، في كتابه (نحو إنقاذ التاريخ الإسلامي) عندما قال : " إن إعادة كتابة التاريخ الاسلامي ليس معناها أن نضع كذبا محبوبا مكان الحقائق المكروهة " . ولهذا أخذ على نفسه ، وبجدية صارمة ، مهمة فضح معظم مشاريع التزوير التي تؤسس لصورة مغلوطة عن الذات ، صورة تلغي الوعي ، صورة مفخخة بأكبر قدر من الأوهام. لا شك أن (الحقائق المكروهة) كانت - ولا تزال - تُقلق ، بل تُزعج وتُرعب ، أولئك الواهمين الغارقين في بحيرة الأوهام ، فضلا عن أولئك المنتفعين الذين يُسهمون في صناعة وحماية وتضخيم بُحيرة الأوهام . وهذا تحديدا هو سبب الحرب الشرسة اللاأخلاقية التي يشنها سدنة الأوهام على كل من يحاول تعرية الأوهام ؛ لأن بروز وظهور الحقائق المكروهة يفضح مشاريع العودة إلى الماضي ، تلك العودة التي تطرح حركاتُ الإسلام السياسي من خلالها مشروعيتها في الواقع ، ويتقبلها المجتمع التقليدي البائس على هذا الأساس. إن أول شرط من شروط القراءة العلمية للتاريخ يتمثّل في أن تقرأ تاريخك بعد أن تنسى أنه تاريخك . لابد أن تضع تاريخك أمامك على طاولة البحث / الفحص / التشريح ؛ بعد أن تتخيله تاريخ أمة أخرى ، تاريخ أمة لا علاقة لك بها ، لابد أن تصنع ذلك الانفصال قدر الإمكان ؛ حتى لا تقف العاطفة التي يصنعها الانتماء ضرورة ، أوتقف الحاجة إلى الاعتزاز القومي ، أو حتى الخوف من ردة فعل المتلقي الذي يتلقى ما تكتبه عن تاريخه بوصفه حديثا مباشرا عنه ، سدا منيعا يحجب عنك الرؤية الصادقة التي ترى من خلالها الأحداث كما هي حقيقة ، وليس كما هي بعد أن تلونت وتشكلت بعواطف ومشاعر وتحيزات آلاف الألسنة وعشرات الأقلام . عندما تقرأ تاريخك قراءة علمية محايدة ، أي بوصفه تاريخا مجردا لا تنتمي إليه ولا ينتمي إليك ؛ سترى الحقائق والوقائع كما هي ، سترى الجريمة جريمة ، ولن تحتاج لتأويلها أو تبريرها ، لن تُلقي بالتهمة على الأشباح أو على الشخصيات الأسطورية ؛ لتبرئة الشخصيات الرمزية ذات المكانة الاعتبارية في وجدانك من جرائمها أو جرائرها أو حتى من ضعفها البشري الذي ينزع عنها أوهام التقديس. لهذا ، يجب أن ندرك ، دون حرج من أي نوع ، أن أصدق توصيف لتاريخنا هو ما كتبه الآخرون عنا (كالكتابات الاستشراقية التي تتصف أغلبيتها الساحقة بالحياد العلمي ، وهو الحياد الذي قد يصدمنا ، بل قد يجرحنا ، وهذا طبيعي) ؛ لأنهم يكتبون عن تاريخ أممي عام ، يتخصص بعضهم في جزء منه ، تاريخ لا يذوبون فيه بأية درجة من مستويات الذوبان . إن معظم ما كتبه الآخرون نرى فيه تجنياً علينا ، نرى فيه هضما لتاريخنا ، نرى فيه انتقاصا من شخصياتنا التاريخية ذات المكانة الاعتبارية ، بينما هو في الحقيقة أصدق وأدق (الدقة والصدق نسبيان هنا ، فالتاريخ منقول عبر وسائط غير محايدة تماما : اللغة وتحيزاتها ، والرواة وتحيزات المؤرخين الغارقين آنذاك في سخونة الحدث ...إلخ) تصوير يمكن أن نرى من خلاله ذواتنا ، كما هي عليه في التاريخ ، ومن ثم ، كما هي عليه في واقعنا المعاش. إننا عندما نكتب تاريخنا بأنفسنا دون تجربة الانفصال عنه ، نكتبه ونحن متلبسون به ، غارقون فيه ؛ بحيث نصبح جزءا من أداة الرؤية ، فنصبح ، في آن واحد ، نحن الموضوع ونحن المشتغلين عليه ، نحن الباحث والمبحوث ، نحن الناقد والمنقود . ولا شك أن هذا يربك واقعية الرؤية ، ويمهد الأجواء لصناعة أكبر قدر من الأوهام . إن (الحقائق المكروهة) كثيرة في تاريخنا المجيد ؛ رغم أنها غائبة أو مغيبة عن مجال الطرح العام . ونحن لا نتذكرها إلا نادرا ، بل نحن نمارس معها الإنكار بلغات مختلفة ، أحيانا بلغة الإنكار الصريح ، وأحيانا بلغة التجاهل واستحضار ما يضادها ليملأ الفراغ ، وفي أحايين أخرى بتأويلها أو بتذويبها في أسيد المبررات العقائدية اليقينية المسبقة القادرة على إذابة أقسى الحقائق وأصلبها ، فضلًا عن القيام بتحميل أوزارها للمخالفين كجزء من لغة قلب الطاولة على الأعداء !.