من قرأ للشيخين قطب : سيد ومحمد ، وقرأ لنسختهما المحلية : سفر الحوالي ، يصعب عليه الانعتاق من أسر الإيديولوجيا المناهضة للحضارة المعاصرة ، خاصة عندما تتم القراءة كما هي الحال معي في نحو العشرين من العمر . كتابات هؤلاء الكُتّاب ؛ رغم تواضعها المعرفي ؛ لمن يقايسها بما أنتجه مفكرو الإيديولوجيات الأخرى ، كانت قادرة على استلاب القارئ ، وعلى إيهامه بأنها تمتلك حدا معقولا من مقومات الكتابة المعرفية ، التي تصل بها إلى درجة المشروع الكامل . لقد كانت مجرد بيوت عنكبوتية ، قواعدها من ورق رخيص ، ولكنهم في حال غياب البديل الثقافي لديك كمتلقٍ كانوا قادرين على إيهامك أنهم سيبنون عليها ناطحات سحاب عملاقة ، تمتد قممها إلى أعماق المحيط ! ، على الأعماق حيث الأصالة والجذور ! . كثيرا ما أُفكّر وأتساءل : ما الذي منعني من الوقوع في فخ هذا المشروع الموهوم ؟ . كل شيء كان يغريني بالوقوع : النشأة ، والدراسة ، والبيئة المتشددة المنغلقة ، والفترة العمرية المترعة بكم هائل من المثاليات ، والتديّن العميق الذي يُدّعم الثقة العمياء بكل ما يتقاطع معه ، والزمن الغفوي الواعد !. لقد كنت مع كل هذه المغريات ، أحس إحساسا عميقا بضآلة هذا المشروع الإسلاموي ، بل وبزيف المؤامرة المُدّعاة ، وبعدم واقعية التصورات ؛ مع أني لم أتشكك آنذاك بحقيقة النوايا التي تقف خلف هذا المشروع الموهوم . صحيح أنني كنت أُعجب ببعض الأفكار والرؤى العامة ، لكنني في الوقت نفسه كنت أسخر في نفسي من لا معقولية بعضها ، وأغضب من بعضها الآخر ، خاصة عندما يمارس هؤلاء تزييفا مُتعمدا للتاريخ ؛ كي تبقى الشخصيات التاريخية مقدسة ؛ بلا أخطاء ؛ رغم فداحة الأخطاء التي كنت أعرفها من خلال قراءاتي المباشرة لكتب التراجم والتاريخ . هذا النفور أو الارتياب ، لا يكفي لتفسير نجاتي من الكارثة . بل إن هذا النفور كان نتيجة وليس سببا . السبب في تقديري يكمن في أن الخط الصلب لقراءاتي آنذاك لم يكن في هذا المضمار الإسلاموي المأزوم . لا زالت أذكر أنني في الوقت الذي كنت أقرأ فيه كتابات محمد قطب ، كنت أقرأ بشغف أكبر بكثير كتب طه حسين ، التي كانت تصلني بأقصى العالم ، بدل ان تحجبه عني . بل أذكر تحديدا أنني عندما كنت أقرأ كتاب ( ظاهرة الإرجاء) لسفر الحوالي ، كنت أقرأ في الوقت نفسه كتاب ( إشكاليات الفكر العربي المعاصر ) لمحمد عابد الجابري ، و ( الموقف من الحداثة ومسائل أخرى ) للغذامي ، وبعض سلسلة المحاضرات ( النقد أدبية ) التي كان يطبعها النادي الأدبي بجدة ؛ بعد إلقائها ، والتي كان يتخللها كثير من التساؤلات المعرفية التي تفتح ما كان ( الغفويون ) يريدون إغلاقه آنذاك . يمكن أن أرى ذاتي اليوم بأثر رجعي ، أراني وأنا أسير في خطين متوازيين ، سرعان ما يجنحان للانفراج في مستويي : فَهمي وتفهّمي . فمنذ بداية التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم إلى ضفاف عام 2000 م كنت أُخضِعُ دونما قصد كتابات الإسلام السياسي / المشروع الإسلاموي للمقايسة بما يكتبه الآخرون من خارج هذا المشروع . إن تلك المقايسة ، التي استمرت على طول الخط معي ، لم تكن أبدا في صالح المشروع المعرفي للإسلام السياسي . طالما اعترفت لنفسي ، قبل أن أعترف للآخرين ، أنني كلما قرأت لكبار المفكرين من غير الإسلاميين ؛ كانت درجة تقديري للمشروع المعرفي الإسلاموي تتضاءل . فمحمد قطب ومحمود شاكر والقرضاوي وعلي الطنطاوي و الحوالي والمودودي والندوي ومحمد محمد حسين وعمارة ..إلخ ، في منتصف التسعينيات ، لم يعودوا يحظون بالاحترام ( احترام النتاج الفكري ، لا الأشخاص ، فكلهم لازالوا محل احترام كبير ) الذي كانوا يحظون به بداية التسعينيات . تغير الوضع في ظرف خمس سنوات تقريبا . ولئن كانت إحدى عيني تقرأ بنهم لهؤلاء الكتّاب ، ولمراجعهم التاريخية التقليدية التي يتكئون عليها ، من رموز التراث القديم ، فقد كانت عيني الأخرى قد بدأت تقرأ بنهم أشد لمفكرين معاصرين جادّين ، بعد أن كانت قد قرأت في مرحلة ما قبل الجامعة لرواد ( الفكر أدبي ) العربي الحديث ، كالعقاد وطه حسين وأحمد أمين .. إلخ ، والذين لم يكونوا أكثر من مقدمات ضرورية لنهضة معرفية مأمولة ، نهضة واعدة ، بدأت ترى النور فيما بعد في الثلث الأخير من القرن العشرين على يد كبار المفكرين ، أصحاب المشاريع الكبرى . بقدر ما كان يزداد احترامي وتقديري لرواد الخطاب الثقافي العربي المعاصر ؛ من ذوي الأطروحات الجادة المنضبطة منهجيا ، بل وانبهاري بهم أحيانا ؛ بقدر ما كان تقديري لكُتاّب الأطروحة الإسلاموية أو التراثوية يتراجع ، إلى أن وصل بي الأمر حد إخراجهم من تصنيفهم كمفكرين ، ثم ككتاب ، إلى إدراجهم في خانة الوعاظ البسطاء ، الذين يجب أن تنحصر فاعليتهم في إرشاد عوام العوام . ليس لي الآن الحكم على هذا الشعور : أخطأ أم صواب ، لكن ، هذا ما حدث ، وهذا ما اقتضته طبيعة الأشياء آنذاك . العقل ينمو ، ومن الطبيعي أن ينمو ، ومن الطبيعي أن يتجاوز نفسه باستمرار . وحينما يتوقف العقل عن النمو ، فهذا يمثّل إنذارا مبكرا على أن هناك خطأ ما ، خطأ قاتل . كثير من الكتابات ، وخاصة الإيديولوجية منها ، لا تكتفي بإيقاف مسيرة نمو العقل ، كما لا تكتفي بتعطيله عن الوعي بالذات وبالموضوع ، هذا التعطيل الذي يقود لأقصى حالات الاغتراب ، وإنما تتجاوز كل ذلك في حال زيادة درجة الأدلجة إلى صناعة مناعة ضد إدراك حقيقة هذا التوقف ، بل وإلى تزييف الظاهرة من الأساس . لقد اكتشفت التضاريس العامة للعالم الروائي من خلال اكتشاف عالم : نجيب محفوظ ، وذلك في السنة الأولى من دراستي الجامعية . وبطبيعة الحال ، لم يكن الاكتشاف منهجيا ، فقد كنت أدرس في فرع من فروع جامعة الإمام . أي أنه كان من المتعذر وفقا للسياق الإيديولوجي أن يتعرف الطالب على نجيب محفوظ من خلال مقرر جامعي ، خاصة في السنة الأولى ، التي كانت الجامعة تحرص فيها على عدم تعريض طلابها ل ( بذور الانحراف !) . لكن ، كان من المفارقات أن مكتبة الجامعة كانت تحتوي على بعض الكتب النوعية في الأدب خاصة ، ومنها كتاب : ( الرمز والرمزية في أدب نجيب محفوظ ) لسليمان الشطي . وهو كتاب قديم ، كُتب قبل أن يحصل نجيب على نوبل ، أي قبل أن يصبح كثير من الدراسات عن محفوظ تبجيلية ، بحيث لا تقدم شيئا ذا بال . ولهذا لم يَفتح هذا الكتاب لي عالم : نجيب محفوظ ، فحسب ، وإنما فتح لي الباب على العالم الروائي كله ؛ فقد قرأت بسببه : الطيب الصالح وغادة السمان و محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس ويوسف إدريس ، كما وعرّفني وهذا هو الأهم في تقديري بما أشبهه من الدراسات غير التقليدية وغير المنحازة في عالم الأدب خاصة . لهذا ، وقبل أن تنتهي تلك السنة ، سرعان ما قرأت ما كُتِبَ عن محفوظ ، خاصة كتاب : ( الرؤية والأداة ) لعبد المحسن طه بدر ، و كتاب : ( المنتمي ) لغالي شكري . وفي السنة التالية قرأت الكتاب الذي كان صدر للتو ، وهو كتاب : ( أدب نجيب محفوظ ، إشكالية الصراع بين الإسلام والتغريب ) للسيد أحمد فرج . وهو كتاب ديني لا أدبي ، يحاول فيه المؤلف بطريقة بوليسية غفوية إدانة محفوظ ، وتصويره كأديب ملحد محارب للإسلام . وبما أنني قد قرأت من قبل ما كتبه الشطي وبدر وغالي عن محفوظ ، فقد اكتشفت عمق الهوة التي تفصل الإسلاموية عن عالم الأدب ، الذي لا يرونه إلا هامش دعوة ، أو وسيلة ثانوية لضبط تمرد عالم الأدب الذي يستعصي بطبيعته على الضبط ، ويرفض ، أول ما يرفض كل صور الانصياع . ولك تبعا لهذا أن تتصور كيف ستكون رؤيتي لما طُرح آنذاك ، فيما يُسمّى ب ( الأدب الإسلامي ) ، هذا العبث الرتيب ، الذي كان مهزلة من مهازل مشاريع الإسلام السياسي . ماذا يريد كهنة الإسلام السياسي ؟! . حتى الأدب ، أرادوا تحويله إلى أداة بث إيديولوجية رخيصة ، وجرى تبعا لذلك تكفير كل صور الآداب الأخرى التي لا ترضى بهذا الامتهان الرخيص ، بوصفها : ( منتوجات جاهلية ) ، بل وتم تعامل معها بكل محاولات التحريم والتجريم . وهذا موقف مأزوم ، يختلف كثيرا عن موقف أسلافنا ، حتى التقليديين منهم ، من الأدب المختلف ، فقد تعاملوا مع ( الأدب الجاهلي الوثني ) بأُفق أوسع بكثير مما أراد أن يفعله الإسلامويون مع الأدب المختلف : الأدب الحديث . وهذا يدل على أن أزمة الإسلامويين اليوم ، أعقد من أن يتم تفسيرها ببعد واحد ، وأنها تحتاج لتضافر أكبر قدر من التخصصات ، بغية مقاربتها ، بوصفها أكبر من ظاهرة غضب وانغلاق . تطور الوضع / الموقف بعد ذلك . وكان مما زاد من ( احتقاري ؟) لما يُسمى ب( الأدب الإسلامي ) بل ولكل نتاج الأسلمة المُفتعلة ، أنني اطلعت آنذاك على عدد محدود (= خمسة أعداد فقط ) من مجلة فصول النقدية التي تصدر في القاهرة ، والتي كان من الصعب الحصول عليها في بيئتي المناطقية المحدود الاتصال ثقافيا بالعالم الخارجي . لقد كانت محاور هذه الأعداد المحدودة تتناول مواضيع مثل : ( قراءات تراثية خريف 1994) و ( دراسة الرواية صيف ) و ( قراءة الشعر القديم صيف1995) و ( زمن الرواية شتاء 1993 ) و ( تراثنا النثري خريف 1993) . هذه الأعداد هي الأعداد التي استطعت الحصول عليها من أول رحلة لي إلى مصر . وكانت القراءة في هذه الأعداد تمارس على نحو تلقائي عملية فضح لكل ما قرأته من قبل ؛ مما كتبه التقليديون والإسلاميون عن الأسلمة ، بل وعن التراث . فقد اتضح لي أن التقليديين ليسوا جاهلين بالمعاصرة فحسب ، وإنما هم ، رغم كل تشدقهم بالتراث ، لم يفهموا هذا التراث الذي يقدسونه ، ولم يُطوّروا أية آليات معرفية لقراءته ولاكتشاف عوالمه ، وعرفت بنفسي أن عددا واحدا من أعداد مجلة ( فصول ) عن قراءة التراث ، يفوق بكثير كل ما كتبه التراثيون التقليديون . وفي المقابل ، أصبحت الكتابات ( النقدية ! ) ذات النفس الإسلاموي ،لا تتعدى في تقديري وبلا مبالغة أكثر من كتابات إنشائية يكتبها طالب في الصف الخامس الابتدائي . ولهذا ، لمّا ظهرت ( مجلة الأدب الإسلامي ) فيما بعد ؛ كانت في نظري بهذا المستوى المتواضع جدا . وتبعا لهذا السياق ؛ اعتبرتها أحد شواهد الإثبات على ضحالة الجانب المعرفي في مشروع الإسلام السياسي ، المشروع الكارثة ، وأدركت أنها ( = مجلة الأدب الإسلامي ) ، لم تكن أكثر من ( نوايا طيبة !) ولكن ساذجة ، أُرِيدَ لها أن ترى النور في الفضاء الأدبي العام ؛ فكانت تعرية لكل الخطاب ، الخطاب الإسلاموي المأزوم . الآن ، أتساءل : ما ذا لو لم أتجاوز تقليديتي الأولى ؟ ماذا لو بقيت في حدود التلقي التقليدي لكبار التقليديين القدامى ؟ ، ماذا لو بقيت في أحسن أحوالي تلميذا وفيا لهذا الخطاب المأزوم ؟ . لا يصعب التنبؤ . وأظنني حينئذٍ سأبقى أسير ثقافة التقليد والتبليد التي تجعل المرء في عماء ثقافي ، بحيث لا يرى الواقع إلا بعيون الماضي ، ولا يرضى عن أي تطور ؛ ما لم توافق عليه سدنة خطاب الانغلاق . نعم ، قد أصل بقوة الصاروخ لما أريد من الألقاب والمناصب ، ستنتشلني الشفاعات ( = الوساطات ) ذات الوزن الثقيل ، كما انتشلت الكثيرين من المجهول ليكونوا واجهات في العِلم الديني ، ستستضيفني القنوات الفضائية المتطرفة ( = قنوات الذكور إلغاء المرأة ) لأبث من خلالها تطرفي ، ولتكتسب الشرعية من خلال منصبي الذي لم أحصل عليه إلا بشق أنفس استجداءات ذوي القربى . ستستدرجني فضائيات التطرف بالاستضافة ؛ لأجيّر مكانتي ( العلمية !) التي لم أحصل عليها إلا بشفاعة كبرى ، شفاعة من الوزن الثقيل ، تكفي لتغطي فضيحة ضحالتي العلمية من أجل إدانة التطورات العلمية ومحاربة صروح العلم ، بحجة إدانة ما يُسمى ب( الاختلاط ) . نعم كان يمكن أن أكون مثل هذا ، أحصل بالشفاعات على ما أريد ؛ دون جهد علمي أو عملي ؛ لأنني لا أمتلك علما ولا عملا ؛ ولكنني سأكون صورة كوميدية لما يمكن أن يكون عليه الإنسان ؛ عندما تكون محدوديته العلمية والعملية مشفوعة بافتقار حاد في الذكاء !. هذا المثال ، المستضاف في قناة التطرف ( = قناة الذكور وأد / إلغاء المرأة ، نفي الفن / الموسيقا ) يتحدث عن ( الاختلاط ) في أكبر صروح العلم في البلاد ، وكأنه يتحدث عن الانحلال في مقهى ليلي . وقف به ذكاؤه المحدود وعلمه المتواضع ، بحيث لم ير في هذا الصرح إلا مجموعة نساء ورجال في حالة ( غزل ) دائم ، يختصر البشر جميعا في شفرة واحدة (= الجنس ) ثم يقضي عمره في محاولة تفسيرها على أسوأ ما توحي به الهواجس والظنون . بما ذا يمكن تفسير مثل هذا الموقف ؟ ، هل تكفي نوعية الثقافة لتفسيره ؟ ، أم لا بد من إضافة ( أزمة الجدارة ) التي تُؤرق ضمير صاحبها . ربما يريد رمي هدفين بحجر ، فهو يحصل بالشفاعة على المكانة ، وعندما يلمزه التيار المتشدد بعدم الجدارة ، وتصبح ضحالته العليمة موضوع تندّر يصل إلى مستوى الإدراك الجماهيري العام ، فإنه يرى أن الفرصة سانحة ، ليخرج برأي متشدد ، يرضي تيار المتطرفين . وبهذا ، يحصل على المكانة بالشفاعة ، ويحصل على البراءة من التسلق على أكتاف ذوي القربى ، وذلك بإصدار رأي متشدد ، يُحجم كثير من المتشددين عن التصريح به . إنه يتذاكى ، علينا وعلى المتطرفين . لكن ، نحن نعرف من هو وما هي مؤهلاته ، والمتطرفون أيضا يعرفونه أكثر منا ، يعرفون : كيف أتى ، وكيف سيذهب ! ، ولن يمنحوه عواطفهم إلا ساعة من نهار . لكن ، بعد كل هذا ، وبعد كل ما نرى ونسمع ونقرأ ، بعد كل هذه الشواهد ، هل لا زلنا جادين في تساؤلنا : من أين يأتي المتطرفون ، أو أين يكمن المتعاطفون مع الإرهاب ؟ .