يظل الأدب الشعبي وبخاصة الشعر لسان حال الحياة الاجتماعية, ووعاء يجد فيه الباحث ضالته عن كثير من الموضوعات الاجتماعية والسياسية وغيرهما, وهو يخبر عن حالات وأحداث واقعية زهد المبدعون اليوم في التعبير عنها بشكل مباشر, حتى أصبح التعبير التشكيلي أو الأدبي يعتمد على التأويل والتخيل في لوحة أو رواية أو قصة قصيرة, في الوقت الذي ظل فيه الشعر الشعبي محافظاً على تقاليده ولو بقدر محدود, قدر التحول عن إبداعه في زمن احتلال الفصحى المساحة التي كان يشغلها الشعبي. وربما عاد الأمر إلى مناهج السلوك في العلاقات والتفاهم مع الآخر, فقد كان الشعر الأداة الأرقى في التحدث إلى الآخر وإطلاق شحنات المعاناة تعبيرا عن الأهمية واستحثاثا لردود الفعل الإيجابية. وبين يدي اليوم كتاب قيم دعاه مؤلفه القدير بدر الحمد "قالت الصحراء" قصص مثيرة وقصائد نادرة من صحراء الجزيرة العربية (الجزء الأول), ويشتمل على شواهد شعرية وتقديم موجز لها, والكتاب جدير بالإطلاع لمحتواه الجيد وصدوره من كاتب مرموق له خبرة وتجربة بالأدب الشعبي, وله باع طويلة في هذا المجال وصدر له أكثر من كتاب, وأشرف على صفحات شعبية وقدم برامج شعبية, وهو كاتب كويتي معروف. ومما أورد في الكتاب قصة طريفة عن معاناة المرأة في المجتمع العربي وسعيها للخلاص من القيود التي تفرض عليها, وهي قيود ذات صلة بالموروث الاجتماعي الذي انتهت أسبابه وبات التحرر من تبعات بعضه أمراً يستجيب لطبيعة الحياة الجديدة التي لا مفر من سطوتها طال الزمن أو قصر. وربما عد بعضهم المرأة من أسرع قنوات التغير والتحولات الاجتماعية, فهي أكثر مرونة واستجابة للجديد, وأكثر استيعاباً له, وكأن شعور الرجل بالمسؤولية (صعيب الراس) جعلته يتمسك طويلا بما ألف من قيم. لندع التنظير لأهله من علماء الاجتماع, ولنعد لمعاناة المرأة التي احتالت للتخلص من عادة التحجير, التي ترغمها على الزواج من شخص معين من قرابتها, ورأت وفق مشورة بنات جنسها شريكاتها في المعاناة أن تعلن عن خضوعها للتحجير شريطة أن تعطى فرصة اختيار من تريد, أعلنت عن رغبتها في محضر من قومها, ولم يكن في مثولها أمامهم ما يعيب, وكانت تحسن الظن بمن وقع عليه اختيارها أن يعف عنها ويفسح لها المجال للتحرر من التحجير. كان المنتظر أن تختار فتى من فتيان الحي فأخلفت الظن فاختارت رجلا مسناً, ولكن هذا الرجل (ما حسّب بها) فأخلف ظنها وقبل بها زوجاً ثم تمسك بها بعد الزواج منها, فوقعت في مشكلة حسن الظن, واستسلمت لهذا المصير الذي اختارته. وذات يوم أقبل الزوج في هيئته التي يهرب منها النساء شيخا مسناً, فتظاهرت بعدم رؤيته مرددة الأبيات التالية: يا حمد يا عيد حفّيت الركايب ما معك بالقلب لا ما ان صد حيلة جِعْل عرسٍ حط في عمري نشايب ينقطع قطعة رشا بير طويلة حظي الا قشر بلاني لي بشايب مثل صيف ليا نشا خلبٍ مخيله كن غزل اذنيه ريف في شعايب مثل ضبع ليامشى ينفض شليله هل رأيتم أو تخيلتم الصورة في البيت الأخير؟ لن يرى معالمها من لم يعش في البادية. هذا الهجاء الذي لم يتوقعه لغرور الرجال أثاره فأجابها في الحال: كيف هي تختارني بين القرايب وانكرتني يوم هي لي حليلة؟ شايب!! شيبي على عوصٍ نجايب سبرها فانْ درهمت فِلْها دليلة طالقٍ باعداد ماهبَّ الهبايب عد دق العرق وانوادٍ تشيله غلاف كتاب قالت الصحراء ويشير المؤلف إلى أبيات كثيرا ما تردد في المناسبات ويجهل كثير منا مناسبتها ومبدعها, ويصفها المؤلف بأنها إشارة طبية من زوجة الفارس المعروف الشيخ مشعان بن هذال تنصحه بالإقلاع عن عادة التدخين, التي كانت تعد من عادات كبار القوم الذين يملكون أمرهم, ورغم ما للمرأة من مكانة الاحترام في البادية وبخاصة من كانت منزلتها مثل هذه السيدة إلا أن (صعيب الراس) من الصعب انتقاده, لذا كانت الشاعرة حذرة من توجيه نصيحتها التالية: يا شارب الدخان شاربك لا طال إياك وايا واحدٍ جاز دونه ما دام به نقص على الحال والمال أيضا وشرابه يدمر سنونه فلما رأت أنها (تورّطت) أردفت: شرابة التنباك فيهم سعة بال واللي طويل شاربه يقصرونه يستاهل التنباك مثل ابن هذال اللى يصره في مثاني ردونه وكان بعض أعيان القوم في البادية والقرية يباهون بامتلاك أمرهم وبأدوات التدخين الذي يكاد يكون استخدامه في مجالسهم مقصوراً عليهم, وأكثر أدواته شيوعاً "الغليون", وأعلى المحلى منه ما كانت قصبته أو سبيله مصنوعاً من فروع السدر لجودة فروع السدر وحسن رائحتها ومتانتها وحسن تجويفها أما الراس فعادة ما يكون مصنوعاً من الطين (فخار), ومطوقاً بحلية فضية, كما تنتهي القصبة أو السبيل بحلية معدنية أكثر ما تكون من الفضة وهي منطقة المص من الغليون, ويصاحب الغليون ملقط خفيف لالتقاط الجمر (الولعة) ووضعه على الراس الفخارية وكيس مشغول يحفظ به التنباك. أماصر الدخان في الردن فتعبير عن سعة الردن وهو ما يتميز به الأعيان. واختلفت الأدوات من منطقة لأخرى, فمنها العظم ومنها المعدن ومنها غير ذلك وحتى محافظ التنباك منها الجلد ومنها القماش ومنها المعدن. ومن وسائل التدخين وأدواته قديماً ورق الشام وهو رقائق من الورق الشفاف المستورد من الشام. ولقلة خبرتي بتقاليد التدخين قديماً وبتعددها أعتذر عن المواصلة. وعن الأبيات المشار إليها كان الشايع عنها أنها بَدْع ورد, كما يظهر من البيت الثالث ولكن الإشارة لابن هذال في البيت الرابع يدل على أن البيتين هذين هما استدراك من الشاعرة, وأن رواية بدر الحمد الأقرب إلى الصحة. والرجل العادل المنصف لا ينكر دور شريكة حياته وفضلها, فقد أورد المؤلف أيضاً أبياتاً يوجهها لابنه يذكر فيها محاسن زوجته منها: يا عايد امك كل ما عاد له عاد لا زادت ايامه تزايد غلاها ما هي من اللي مشيها تقل هداد علمه ببيته يوم تاكل غداها ولا هي من اللي صوتها تقل رعاد تفزّز اللي حولها من لغاها وقوله: يا عايد امك من يسد بمكانه كان التوى من دونها مظلم الجال مع زين طبعه نفسها به ليانة عدي مع المجمول دهنٍ بفنجال فعسى ألا يكون هذا الشمالي خائفاً منها. وعلى أية حال هذه معايير اجتماعية حسنة تستاهل بنت الرجال هذا الثناء. كما يشير المؤلف عن نظرة المرأة للرجل, بأنها تنصف الرجل الذي يحسن معاملتها وفق معايير الوفاء والكرم, وأكثر ما يتحدث المؤلف عن ابنة الصحراء التي لا تهتم بالشكليات قدر اهتمامها بالفضائل. وهو يذكر قصة امرأة زوجها والدها من رجل ظهر له فيما بعد أنه ضعيف ماديا وإن كان كريما, وأنه يعاملها معاملة حسنة, ولكن الأب أراد أن تعيش ابنته في رغد من الحياة. وعندما قدمت لزيارة أسرتها استبقاها لديه ومنعها من الرجوع إلى زوجها. ولكنه فوجئ ذات يوم بها تتغنى بأبيات شوق إلى زوجها ومدح لخصاله دون علمها بأن والدها كان ينصت إليها, فما كان منه إلا أن ندم على ما بدر منه وأعادها إلى زوجها. أما الأبيات فهي: يا من لعين حاربت سوجة الميل على عشير بالحشا شب ضوّه عليك يا اللي طبخته نصفها هيل اللي سعى بالطيب من غير قوّة المال ما طيّب عفون الرجاجيل والقل ما يقصر براعي المروّة يا عنك ما احس الجماعة ولا قيل ذا مغثيٍ ما ينّزلْ حول جوّه وله عادة ينطح وجيه المقابيل هذي فعوله بالمراجل تفوّه أجواد نسل اجواد جيل ورا جيل الطيب فيهم من قديمٍ وتوّه والكتاب حافل بكثير من الموضوعات الطريفة والنادرة التي يحسن التوجيه إلى الإطلاع عليها. ومع أن الكتاب مختارات من هنا وهناك, ومرويات من مصادر رفيعة إلا أن خير الكتب هذه ما اختيرت مادته وموضوعاته بعين ثاقبة, ورؤية بصيرة, فشكراً للمؤلف؟.