الوطن هو محفظة الروح، وحينما تغادره فأنت تنسلّ من شرنقة النفس والقلب. الوطن هو وشم في باطن القلب، يلوح في الذاكرة والوجدان. هو ذلك الهاجس الجميل الذي تحمله في زوايا قلبك، وغبار أمتعتك، وخبايا نفسك، وفوق أهدابك، تغمض عينيك عليه فتشعر أن نفسك تفيض حناناً، وحباً، ورضا. لا يعرف حب الأوطان إلاّ من كابد مواجع الابتعاد، وعذابات الرحيل. لا يعرف حب الوطن إلا أولئك الذين أخرجوا من ديارهم أو أولئك الذين أجبروا على الرحيل عنها، أو الذين قذفت بهم صروف الحياة فراحوا يتكسرون على موانئ التغرب، وشواطئ الرحيل. أولئك هم ضعفاء الناس.. تُغلق في وجوههم دروب الحياة كلما أغلقت في وجوههم بوابات الوطن.. فتضيق عليهم الأرض بما رحبت. ومهما تدانت أطراف الكون، وتقاربت أبعاده، فإن الوطن دائماً يشب ويكبر، ينمو ويتطاول في عيون محبيه. إن للوطن حباً يلج باطن القلب، ويلج في خبايا الذاكرة. له رائحة لا يشمها إلاّ النازحون عنه النازفون بالشوق والحنين إليه..، تماماً مثل ذلك الذي طاردته كلاب الليل وراء بوابات الاغتراب فلم يجد وطناً إلا الحقيبة التي يحملها من فندق إلى فندق، ومن مطار إلى مطار، يلاحقه التشرد ويعوي خلفه شبح الموت فراح يردد في وجل وخوف: هذي الحقيبة عادت وحدها وطني ورحلة العمر عادت كلها قدحي أصابح الليل مصلوباً على أمل ألاّ أموت غريباً ميتة الشبح يظل الوطن بجباله الباذخة، بنخله المتطاول عزاً ومهابة، يظل برمله وسرابه، بقادته ورجاله، بأطفاله وشيوخه، بحره وبرده مخبأً للقلب، ومتكأً للطمأنينة. فهو الأب الكبير الذي نقسو عليه في بعض حالاتنا فيحنو علينا، نأخذ منه فيعطينا، ونعصيه أحياناً فيبرنا، ويمنحنا بلا منٍّ أو أذى. ومهما حاولنا رداً لجميله فإنّا لن نستطيع إلاّ أن نزداد عشقاً وحباً له، وبراً به. نتسامح معه حتى في لحظات خطئه، مثلما هو متسامح معنا في لحظات خطئنا وتقصيرنا. فالذين لا أوطان لهم، هم حقاً مساكين الناس فلا أمن لهم، ولا عزّ لهم. بل الذين لا أوطان لهم لا بواكي لهم! وصدقوني فلئن يتوسد المرء ذراعه على تلٍ من الرمل في وطنه، خير له ألف مرة من أن يتوسد كنوز الدنيا بلا وطن..؟!