كثيرة هي المشكلات التي نواجهها في أيامنا هذه، فحركة الزمن في تسارع كبير ولا نوشك أن نلتقط أنفاسنا بعد أزمة إلا لنواجه أخرى هي أشد منها ولا نكاد نخرج من مشكلة إلا بشق الأنفس وبلوغ القلوب الحناجر إلا لنقع في أكبر منها. أضف لذلك هذا التسارع والزيادة في الكم والكيف في آلات الدمار والخراب مع استنفار الطاقات والجهود في التفنن في تطوير أساليب التقتيل من قنابل الفسفور الأبيض الذي أحرق أطفال غزة العزل في مدارسهم إلى القنابل الذرية والهيدروجينية والنيوترونية وغيرها كثير. ولم نكتف بهذا الكم من السلاح، لذلك أصبحنا نتفنن في استخدام كل شيء كسلاح، فالطائرة سلاح، والسيارة سلاح، والحيوان سلاح، حتى أصبح الإنسان ينظر إلى أي إنسان آخر ليس كأخ في دين أو إنسانية وإنما يخشى أن يكون قنبلة موقوتة لا يدري متى تنفجر عليه. وكأن هذا القدر من الجنون ليس بكاف، لذلك أضفنا إليه التوسع الكبير في وسائل الاعلام والانتشار الهائل في الفضائيات التي صارت تتسابق فيما بينها أيها الأسرع في الوصول إلى ساحات العنف والدمار لتصويرها، حتى صارت الكاميرات تصل قبل سيارات الإسعاف وذلك لتصور الأشلاء المتناثرة والدماء المسالة دونما أدنى احترام لإنسانية الإنسان التي كرمها الله بقوله "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا". (مع ملاحظة أن الله كرم بني آدم جميعا بغض النظر عن ديانتهم)، إذا فالله جل وعلى يكرم الإنسان ولكن الإنسان، ومع كل الأسف، لا يكرم الإنسان. هذا العنف وهذه المآسي التي تطل علينا ليل نهار وبدون نهاية أوصلت الناس إلى حد القنوط الذي دفع بالبعض إلى اليأس أحيانا والى الشعور بفقدان السيطرة لا بل فقدان القدرة والرغبة على عمل أي شيء، والاعتقاد بأن كل ما يمكن أن يعمل لن يغير من الأمر شيئا، وإذا فلا داعي لعمل أي شيء. واكتفى البعض حيال ذلك بكثرة الحديث عن المؤامرات العالمية التي لا قبل للناس بها والتي يعتقد البعض أنها تسير كل شيء وأنها هي التي تقف وراء كل فشل وخذلان. حتى صرنا ننسى أن الله هو المتصرف بشؤون الكون وانه لا راد لقضائه وأمره، وقعدنا عن عمل المطلوب منا. ولعلاج مثل هذه الحالة عند الناس، ولأنها حالة متكررة على مر العصور، فإن الله سبحانه قص علينا قصة في القرآن الكريم وفي سورة النمل بالتحديد وهي من أروع القصص وأجمل الوصفات لمثل هذه الأوضاع. والقصة تضع جيش سليمان عليه السلام، وهو لمن لا يعلم، أعظم جيش في تأريخ البشرية منذ نشأتها وحتى قيام الساعة، ذلك أنه جيش عظيم سخر الله فيه لسليمان ما لم يسخره لأحد سواه "قال ربي هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب". فسخر الله له الجن تصنع له الأسلحة والدروع وسخر له الريح تجري بأمره حيث شاء، وعلمه لغة الطير التي سخرها فأصبحت عيونا له في الجو تأتيه بالأخبار من كل مكان. هذا الجيش العظيم الذي أذل جبابرة الأرض وجعلهم يهربون من مواجهته، أو ينقادون لسلطانه طوعا، والذي كان يحقق النصر قبل المعركة لأنه لا توجد قوة توازيه وتنازله. فماذا تضع أمامه؟ ما رأيك بأمة من النمل تقودهم نملة؟ نعم، يأتي هذا الجيش وقائده المظفر نبي الله سليمان إلى وادي النمل. ويا لها من مفارقة، أعظم الجيوش يواجه مجموعة من النمل. "حتى إذا أتى على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم". هذه النملة الشجاعة لم تنشغل بقوة الجيش وعظمته، ولا بموكب قائده المهيب عن أداء واجبها وحماية أمتها. كما وأنها لم تهزم أمام قوة الجيش فتفقد صوابها. ويا ترى ما يمكن أن تقوم به نملة في مواجهة أعظم جيش في العالم نزل بواديها؟ أمر واحد، أنها لم تغفل عن واجبها، وهو أن تنادي "يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم" فما كان من القائد العظيم الذي أزال العروش وغزا الأمم إلا أن أعجب بصمود هذه النملة الشجاعة وواجه ذلك بالتبسم من قولها. ولعل عظمة الدرس الذي يمكن أن نأخذه من هذه النملة هو السبب وراء تسمية السورة بكاملها سورة "النمل" تقديرا لموقف تلك النملة الشجاعة ولكي ننتبه إلى هذا الدرس العظيم. والله أعلم. هذه القصة القرآنية ذكرتني بحكاية أخرى من الحكايات التي نسمعها ولا ندري مصدرها، وأعتذر للقارئ عن ذلك. هذه القصة الثانية بطلتها نملة أخرى، ويقال ضفدعة، عاصرت نبيا من أعظم أنبياء الله وهو أبونا إبراهيم الخليل عليه وعلى رسولنا أفضل الصلاة وأتم التسليم. وهذه القصة تقول ان قوم إبراهيم لما أوقدوا النار لإلقاء إبراهيم فيها بعدما ضاقوا ذرعا به وبدعوته. ولأنهم فشلوا في ميدان المنطق والحجة فلم يبق أمامهم إلا القوة والتدمير، وفي هذه الحالة النار. فرح الغراب بفكرة حرق إبراهيم، وهذا ديدن غربان البشر، وبحث عن غصن شجرة صغير لكي يسهم في إيقاد النار. فليس الموقف موقف التفرج وإنما موقف التمايز. لكن نملة لم يسرها أن ترى إبراهيم عليه السلام يلقى في النار، وماذا تستطيع النملة أن تفعل؟ لم تقف مكفوفة اليد، ولم تقل ان الأمر فوق طاقتي، ولم تفكر أن هذه مؤامرة كبيرة يشترك فيها كل أهل البلد من الحاكم النمرود إلى جميع الناس وحتى والد إبراهيم كان جزءا من المؤامرة. وما أسهل الهروب في مناسبة كهذه يمتلك فيها طرف كل أسباب النصر الظاهرة، ولا يمتلك الطرف الآخر إلا إيمانه بفكرته. معركة خاسرة بلا شك ولكن لمن؟ راحت النملة وحملت على ظهرها الصغير قطرة ماء أصغر منه. وماذا يا ترى تستطيع هذه القطرة أن تفعل لهذه النار المستعرة؟ رأى الغراب هذه النملة وهي تحمل القطرة بشق النفس فسألها ماذا هي فاعلة. قالت آخذ هذه القطرة لألقيها على النار. ضحك الغراب من منطق النملة وسألها بسخرية وهل تستطيع قطرتك أن تطفئ هذه النار؟ قالت ربما لا، ولكن هذه القطرة هي مقدار طاقتي وكل ما أستطيع فعله ولأني يجب أن أفعل شيئا. يا له من درس عظيم! نعم، قد تكون الأحداث أكبر منا، وهي بلا شك كذلك، ان فكرنا فيها بمقياس المادة المرئية. لكن الله سبحانه أودع هذا المخلوق الذي يسمى الإنسان قدرات وإمكانيات كبيرة لا يعلمها إلا هو. ورحم الله إقبال حين يقول: وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر وما هذه المحن والمآسي إلا فرص لإظهار الطاقة الكامنة ووضع الحلول لما نعاني منه ولبناء النفوس وعمران الأرض. فإذا ما قام الآخرون على القتل ورفع السلاح وحرق الأرض، يبقى واجب كل واحد منا أن يحمل قطرة الماء، فمتى ما حمل كل منا قطرة الماء الصغيرة استطعنا أن نطفئ النار الكبيرة. وعلى أي حال فمهما كبرت مشكلات أي منا فلن تكون مثل نار إبراهيم، كما وأن أيا منا لن يكون، بحول الله، أضعف من نملة. وما أجمل المثل الصيني، "بدل أن تلعن الظلام ألف مرة، أوقد شمعة". * سفير جمهورية العراق في الرياض