بقدر ما كان يسمع الوعّاظ يتحدثون عن لحظة الافتقار في حياة بعض التجار.. تلك النقلة التي كانت تنقلهم من حياة النعيم في لحظات.. إلى حياة العوز والفقر.. إلا أن هذه الأحاديث.. لم تكن تمر في خياله العابر.. إلا كأحاديث السمّار.. وهلوسات الدراويش.. حتى أتت أزمة الكساد.. ليلفي ما كان يظنه خيالاً كاذباً.. حقيقة صادقة..! جريء .. كذا يصفه من كان يعرفه .. ولذا لم يتردد حينما لاحت له الفرصة .. في الاستقالة من وظيفته .. ليضرب في الأرض تجارة وبيعاً .. معاملة وصدقاً .. جمع في (5) سنين.. ما كان يحسب لجمعه من وظيفته المحترمة.. خلال (30) سنة أو يزيد .. يكفيه من هذه التجربة .. كما كان يحكي لرواد مجلسه.. بأن التجارة تقوي العلاقة بالله .. فكل صباح يدعو بتضرع بزيادة الخير والسعة في الرزق والإيمان القوي .. في حين كان سابقاً .. يعلم تماماً .. بأن راتبه سينزل صدقاً في آخر الشهر .. ولذا كان توكله على الله .. معطّلاً ..! (ضع أموالك في سلة مالية).. حاول أن ينوّع بناء على هذه التوصية التي .. أتته من مدير الشركة شرق الأوسطي .. دخله في سلة استثمارات .. كان أكثرها على شكل سندات وأوراق مالية .. أو رهونات عقارية في السوق الأمريكي .. كرّت واحدة تلو الأخرى بحلول الأزمة المالية .. حاول أن يصمد .. ولكن لم يبقَ له شيء .. إلا بعض العقارات .. أراد أن يتخلص من دائنيه .. بجعلها وقفاً ذرياً على أولاده .. يرجع في ريعه عليهم لاحقاً .. أليسوا أولاده ..؟! أصبح في حكم الشائع بين الناس .. أن المفلس لا يحبس ولا تطوله أحكام القضاء .. وكأن القضاء قاصر في أحكامه عن تنظيم أعمال فئة مؤثرة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحركه الأموال .. والذين يلجأ قسم منهم .. إلى طرق عديدة تناولها الشراح والفقهاء بحثاً ودراسة .. كالإفلاس الاحتيالي .. تهرباً من سداد الدائنين .. وتخلصاً من أي مطالبة قضائية مستقبلية. ورغم أن نظام المحكمة التجارية والذي صدر في عام 1350ه قد أوضح بشكل دقيق الفرق بين الإفلاس الحقيقي والاحتيالي وفق التعريف: • المفلس الحقيقي: هو الذي اشتغل في التجارة على رأس مال معلوم يعتبره العرف كافياً للعمل التجاري الذي اشتغل فيه ووجدت له دفاتر منظمة ولم يبذر في مصرفه ووقع على أمواله حرق أو غرق أو خسارات ظاهرة فإذا توفرت هذه الشروط يكون مفلساً حقيقياً. • المفلس الاحتيالي: لا يعبر عنه بمفلس إلا لتوزيع موجوداته على غرمائه ، بل هو محتال والمحتال من استعمل ضروب الحيل والدسائس في رأس ماله أو قيد بدفاتره ديوناً عليه باسم أحد آخر بصورة كاذبة او حرر بها سندات او إفراغ امواله وعقاره إلى غيره بطريقة نقل الملك أو أخفى شيئاً من أمواله واشتغل في التجارة بطريق التمويه والاحتيال أو تغفيل التجار على أية صورة كانت وسواء كان مبذراً أو لم يكن مبذراً أو لم توجد له دفاتر أو وجدت وكانت غير منظمة وأضاع حقوق العباد بتلك الصورة .. فيكون محتالاً. إلا أن أشكال الإفلاس الاحتيالي تتعدد بصور كثيرة .. ومنها الوقف تخلصاً .. أو الوقف احتيالاً إن صحت التسمية بذلك .. ويبرز الفرق بينهما في أن الأول يهدف فيه التاجر إلى الإضرار بدائنيه بانتقال ملكه وتحوله على التأبيد لمصلحة خيرية .. في حين يهدف من خلال الثاني إلى الاستفادة الشخصية من ريع الوقف .. بجعله العقار وقفاً ذرياً على أولاده وفق الشروط التي يضعها..! المؤلم أن مثل هذا التصرف من الوقف الاحتيالي .. يمر بمعضلتين قانونيتين: الأولى تتمثل في نفاذ الوقف وصحته .. بينما الثانية .. تبرز في غياب الحكم العقابي على هكذا استغفال لأموال الناس ..! *الباحث في أنظمة العقار