كنت قد اتفقت مع زميل لي يسكن مدينة لندن على تبادل الرسائل الانطباعية في رمضان حول المدن التي سكناها في هذا الشهر الفضيل وكان الزميل يعاني من غربة شديدة وهو يتحدث عن رمضان في لندن رغم أنه يسكن هذه المدينة "الموحشة رمضانيا" منذ أكثر من أربعة عشر عاما ورغم أن زوجته وابنه معه لكن رمضان يثير مشاعر الألفة الاجتماعية التي عادة ما يعاد تشكيلها في هذا الشهر ويحيل الانسان إلى ذاكرة "أول منزل". حالة تسكننا من الداخل نتفاجأ بها من أول يوم وكأنها مسجونة باقي السنة تقفز فجأة خارج القضبان وتتلبسنا دون أن نشعر. سكون ورغبة في التواصل الاجتماعي وتذكر للأهل والاصدقاء. تتوقف الساعة أو تتباطأ لتجعلنا في حالة تأمل عميق ربما نحن بحاجة إليه. لقد قضيت الاسبوع الماضي في مدينة الرياض وحيدا، وأقصد بالوحدة هنا أنني كنت بعيدا عن البيت فقد تعودت منذ بداية رمضان أن التقي بأبنائي وبناتي على مائدة الافطار يوميا وهي فرصة لا تسنح لي كثيرا في باقي ايام السنة، وفي الرياض كنت افطر وحيدا رغم أنني كنت بين ناس كثر في قاعة الفندق المخصصة للإفطار وقد لاحظت تحول الاسرة السعودية إلى الافطار للخارج، وهو تحول اجتماعي يجب فهم تبعاته فقد كنت خلال السنوات الماضية أشارك في حفلات افطار في قاعات وخيم رمضانية لكن لم تكن الاسرة السعودية تشارك فيها بهذه الكثافة. التحول هنا "أسري" بالدرجة الأولى إذ يبدو أن الأسرة السعودية صارت تبحث عن الترفيه لأنها صارت تشعر بالملل الشديد من نمط الحياة داخل البيت وخارجه. على كل حال مشاعري الرمضانية "الرياضية" كانت غريبة جدا فلأول مرة أشعر بالغربة في مدينة الرياض حتى أنني صارحت الزملاء (فريق العمل الذي كنت ألتقي بهم صباح كل يوم) أنني أشعر بالغربة وأن علينا أن ننهي مهمتنا بأسرع وقت ممكن لأني أريد العودة للبيت (في مدينة الخبر). حاولت أن أتذكر في السابق تجربتي الرمضانية مع مدينة الرياض واكتشفت أنني لأول مرة أسكن الرياض فترة طويلة في رمضان فقد كانت تجربتي الرمضانية مع هذه المدينة عابرة ليوم أو يومين بحد أقصى ولمناسبات خاصة وكنت اتفادى البقاء في الرياض في رمضان لفترة طويلة وعرفت هذه المرة لماذا، فرمضان شهر أسري، لا تشعر به إلا في فضاء العائلة. أذكر أول مرة خرجت فيها خارج المملكة في رمضان كانت في مطلع التسعينيات الميلادية وكانت وجهتي إلى مدينة "مومباي" الهندية وكان ذلك قبل عيد الفطر بأربعة أو خمسة أيام ووصلت إلى مطار "أنديرا غاندي" بعد منتصف الليل وعندما وصلت للفندق كان وقت السحور وكنت عازما على الصيام. أتذكر تلك التجربة بكل تفاصيلها رغم أنني لم أدونها من قبل فقد طلبت سحورا ولم يكن في الفندق أي طعام سوى البطاطا المقلية المقرمشة وما زاد الطين بلة هو أنني لم أستطع النوم فهذه أول مرة اسافر فيها في رمضان فطلبت سيارة بعد صلاة الفجر مباشرة وطلبت من السائق أن يعرفني على هذه المدينة وفعلا قمت بتصوير "مومباي" في وقت الشروق وهي تطل على بحر العرب وتوقفت عند جامع أو ضريح وسط البحر اسمه (حجي علي) ينقطع عن اليابسة إذا ارتفع المد. لا أستطيع أن أقول أنني شاهدت أي مضاهر رمضانية في هذه المدينة لكن خليطا من المشاعر كان يتنازعني في تلك الفترة المبكرة من حياتي وقد كنت وحيدا وغريبا وفي رمضان حتى أنني لم أصدق أن آتي يوم الجمعة (وكان ذلك بعد يومين على ما اعتقد من مكوثي في مومباي) فذهبت للجامع الكبير وسط المدينة وكان مكتضا لكني شعرت بالألفة والرضى وانكسر عندي الشعور بالغربة حتى أنني أثناء الصلاة وبعد قراءة الفاتحة صرخت بصوت عال في حماس غير معهود "آمين" ولم أسمع إلا صوتي فقط وقلت في نفسي لماذا لم يقل أحد "آمين" وخرجت من الجامع مسرعا وأنا أتلفت ورائي، لكني اكتشفت بعد ذلك أن أغلب الهنود المسلمين لا يرددون هذه الكلمة بعد قراءة الفاتحة جهرا (لأنهم على المذهب الحنفي أو المالكي فقد نسيت رغم أنني أتعبت الموضوع بحثا وتقصيا). لكني لم اصدق أن أتي العيد بعد ذلك وذهبت إلى وسط المدينة الذي يحتفل بعيد الفطر فعلا ولم أستطع أن أتبين إن كان المحتفلون مسلمين أو من الديانات الهندية المتعددة. يظل رمضان شهر الأسرة السنوي، إنه احتفال يمتد لمدة شهر يحدث فيه تقارب عميق بين أفراد الأسرة لذلك نشعر بالغربة عندما ننفرد بأنفسنا في هذا الشهر حتى أولئك الذين تعودوا على العمل منفردين في أيامهم الاعتيادية يتبدل بهم الحال ويتوقون إلى لقاء الناس والاحتفال معهم برمضان. عندما كنت اعد رسالة الدكتوراه في مدينة "نيوكاسل" الانجليزية (1995-1998) عشت رمضان أربع مرات وكانت عادة الجالية المسلمة هنا (وأغلبها من الهند وباكستان) أن تمضي الشهر كله في مجموعات تسمى "البيت المفتوح" بحيث يجتمع مجموعة من الاصدقاء مع أسرهم في بيت أحدهم إما للعشاء أو السمر حتى وقت متأخر (وقد عشت رمضان في هذه المدينة وقت الشتاء وكان النهار قصيرا والليل طويلا جدا). كانت هذه البيوت المفتوحة تكسر غربة رمضان في مدينة لا تكترث ولا تشعر بما يعنيه هذا الشهر فعلا. لقد كنا نعيش رمضان بطريقتنا الجماعية لذلك فإنني أشعر بما يشعر به صديقي (اللندني) الذي يعيش رمضان مع أسرته بمفرده فهو يسكن بعيدا عن أي جالية مسلمة في لندن. لقد كنا نفطر جماعيا الرجال والنساء (منفصلين بالطبع) في مسجد الجامعة في (نيوكاسل) وكان الافطار في حد ذاته تظاهرة اجتماعية تعرفت فيها على الكثير من المسلمين من كل انحاء الدنيا. ذاكرة رمضان تختزن الكثير لكن الدرس الأهم هو أن هذا الشهر هو فرصة حقيقية للتقارب الأسري أو هو "علاج" اجتماعي ناجع يمكن أن يصنع تحولا كبيرا في الحياة. أذكر هنا أنني زرت مركز التنمية الاجتماعية بالأحساء في الاسبوع الثاني من رمضان وبدعوة كريمة من الدكتور خالد الحليبي وشعرت كيف أن مجتمعنا بلغ من التعقيد درجة تتطلب تدخل المختصين الاجتماعيين لمعالجة حال الأسرة المتدهور والذي يمكن أن يتدهور أكثر مع التحولات الكبيرة التي تعيشها المدينة السعودية المعاصرة. هذا المركز الذي يبدو أنه أصبح تجربة تبنتها أغلب المدن السعودية في الوقت الحالي يوجد به موقع ألكتروني يشارك فيه أكثر من 350 مستشارا اجتماعيا (من كل انحاء العالم) لمساعدة الأسر والاجابة على أسئلتهم. والحقيقة أنني لا أستطيع أن أوفي هذا المركز حقه في هذه العجالة، لكني أرى أن رمضان بكل حضوره الروحي وحسه الاجتماعي فرصة لعلاج كثير من المشاكل الاسرية الذي يمكن أن تستثمره مثل هذه المراكز. إنه عيد الاسرة الذي يجب أن نحتفل به جميعا.