بين أشياء قليلة لا تستطيع المدينة الحديثة إبراز هويّتها السحرية ومعناها الحقيقي: الباب. الباب للقرية. لأن الباب رائحة، والأبواب روائح أولاً. وفي بيت جدّي كان الأمر على هذا النحو. فحالما أتذكّر باب الباكة الشرقية (حظيرة البقر) أشمّ رائحة الحليب المتداخلة - بحسن نيّة - برائحة زبل البقر. وحالما أتذكّر باب الباكة الشرقية (حظيرة الأحصنة والحمير) أشمّ رائحة الحمير الأليفة. وحالما أتذكّر باب المضافة الأزرق أشم رائحة القهوة والهيل. وحالما أتذكّر باب التبّان أشمّ رائحة التبن والقَصَل. وحالما أتذكّر باب العلّية أشمّ رائحة صابون الغار حيث لم يكن في بيت جدّي حمّام وكنّا نستعمل العلّية الموحشة للاستحمام... لكن الباب الأكثر عنفاً في مخيّلة صبيّ كنتُه ذات يوم هو باب "المشماية" (بيت الخروج)، أو لابابها. كانت "المشماية" في أقصى الحاكورة وراء البيت، وكانت مبنيّة من حجر البازلت الأسود، وكانت ملفوفةً لفّاً حلزونياً في بنائها، بحيث تستر مَن فيها وفي الوقت نفسه ليس لها باب. مدخلها الغريب كان بابها ولابابها، كان تمثيلاً رمزياً لحيائنا النابح والحلزوني والملتفّ على نفسه كحيّة الفردوس. كان شبيهاً بتعقيداتنا الأخلاقية في التعامل مع أجسادنا. هذا اللاباب رائحته لم تكن من رائحة ما فيه بل من فكرته، لذلك لم يكن بشعاً استذكاره، بل صادماً. في الجزء القديم من بيت جدّي كان ثمة باب سميك مقفل دائماً يفتح على بيت الجيران مباشرةً، وهذا الباب داخليّ في إحدى الغرف، وقد صنعوه في "الثلجة الكبيرة" عندما غُمرت القرية بالثلج. في ذلك العام - كما يقول جدّي - صنعوا أبواباً كثيرة بين البيوت المتراصّة تفتح على بعضها البعض. كان الجيران يزورون بعضهم دون دخول البيوت من أبوابها. وهذا الباب المقفل أبداً في بيت جدّي الذي ارتبط بلون الثلج وبياضه وبرده الذي يُشعل البيوت والأبواب الداخلية دفئاً، ارتبط أيضاً برائحة الحطب والنار والجمر المفرقع، ارتبط برائحة الشاي الآتي مع فطور الصباح من عند الجيران، وبرائحة قلي الزلابية، وكل رائحة انبعثت من تلك الغرفة المحجوبة للجيران والتي حوّلوها إلى مطبخ قاموا بتوريقه بالاسمنت حتى فوق الباب الذي تحوّل إلى جدار حقيقي. جدّي لم يضع طينةً فوق الباب، لكن الباب مع ذلك تحوّل إلى جدار. وهكذا كان كلّ باب رائحة، وكلّ رائحة حكاية، والأبواب حكايا، حتّى المُخلَّع منها، وحتى الصدئ منها، وحتى الغائب. ولو قُدِّر لجان باتيست غرونوي (بطل رواية "العطر" لباتريك زوسكيند) زيارة بيت جدّي لأقنع كاتبه بتغيير بعض الأحداث في مصيره، ولقال له: عوض أن تجعل جرائمي مع الفتيات اجعلها مع الأبواب... كلّ شيء في بيت جدّي كان يصلح لأن يكون باباً. حتى جدّي نفسه كان باباً. حتى أنا. حتى هذا المقال.