بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد لصد هجوم المشركين على أرض (بدر) كان بأمس الحاجة إلى مقاتلين وخيل وإبل، فعدد أصحابه كانوا ثلاثة مئة وبضعة عشر، ليس معهم سوى مئة بعير يتعاقبون عليها، ولم يكن معهم سوى (فرسين) واحدة للزبير والأخرى للمقداد، أي أنهم جميعاً قطعوا ثلث المسافة من المدينة إلى بدر مشياً، في شدة حرارة الصيف ولهب قيضها، بينما كانت قريش على أهبة الاستعداد بألف مقاتل مدججين، وفجأة يصل الصحابي حذيفة بن اليمان مع والده رضي الله عنهما للمشاركة، فيفرح النبي عليه السلام بهما، ويسر لقدومهما، لكن حذيفة أخبر نبيه أن قريشاً أسرته وأباه وهما في الطريق، ولم تطلقهم إلا بعد أن أخذت عليهم العهد أن لا يشاركوا في معركة بدر؟ وهنا أطرح أسئلة ملحة جداً. ترى ما هي إجابة النبي صلى الله عليه وسلم وجيشه ضعيف وبأمس الحاجة إلى شجاعين كحذيفة ووالده؟ ما هي إجابته وما موقفه من عهد قريش وهو الذي اكتوى بغدرها، فقد قتلت أصحابه وصادرت أموالهم، وعذبتهم، وطردتهم من ديارهم؟ ما موقفه وقريش قد تآمرت للغدر به واغتياله، لا سيما وهو نبي الله وآخر رسله؟ ما موقفه من الوفاء بعهد مع قريش التي حرضت الجزيرة العربية كلها ضده، برصدها لمئة من الإبل تقدمها جائزة لمن يأتي به حياً أو ميتاً؟ ما موقفه من عهد قريش مع حذيفة وهي التي منعت أي مسلم من العمرة؟ ما موقفه وقريش أرسلت رسائل تهديد لأهل المدينة أن يقتلوا محمداً، وإلا زحفوا بجيش من مكة يسفكون به الدماء ويستحلون به النساء، ثم أرسلت رسالة تهديد مماثلة لقبائل اليهود في المدينة؟ قائمة من الأسئلة الثقيلة، وقائمة أخرى سوداء ملونة بالخزي والخيانة والغدر اتشح بها مشركو قريش، فهل لأمثال هؤلاء المجرمين عهد أو ذمة؟ الإجابة في نظر أي إنسان هي: لا عهد لهم ولا ذمة ولا كرامة، فهم مشركون غادرون وقتلة همج مجرمون. أما إجابة النبي صلى الله عليه وسلم فهي إجابة بحجم الإسلام، ولا تليق إلا بمجاهدي الإسلام الحقيقيين الأطهار، قال صلى الله عليه وسلم لحذيفة ووالده: "انصرفا.. نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم" - صحيح مسلم - فانصرفا عليهما السلام على الفور ولم يجادلا، ولم يطلب منهما ولو قربة ماء. هذا هو نبينا، وهذه سنته في الحفاظ على العهود والمواثيق مع القتلة والمجرمين والسفاحين، فما هي سنة من أرسل هذا الشخص الذي أخذ على نفسه العهود والمواثيق، وأخذ من أخيه الأمير المسلم الأمان والترحاب والضيافة والاحتفاء لدرجة الإعفاء من التفتيش، وفي النهاية ينسف كل ذلك ويغدر؟ كلمة النبي عليه السلام لحذيفة ليس لمن غدر وانتحر، فهي لن تجدي نفعاً، فلقد ختم حياته بغدر وانتهى، وهو الآن بما كسب رهين. إنها لشباب أحياء قد يسلكون مسلكه.. إنها لعقول تدفع بأبنائنا إلينا وكأن بيوتنا تغص باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، مع ملاحظة أن هذا العهد أخذه حذيفة على نفسه دون علم النبي أو استشارته أو رضاه، ومع هذا قال عليه السلام: "نفي بعهدهم ونستعين الله عليهم"، وإن كانوا لا يعترفون سوى بالقادة المجاهدين، فهذا مثال آخر ضربه أعلم المجاهدين وأتقاهم وقدوتهم ونبيهم عليه الصلاة والسلام. وقّع نبينا عليه الصلاة والسلام معاهدة مع أشد جهة أو دولة تناصب الإسلام العداء على امتداد التاريخ (قريش) على أرض الحديبية، ويقضي أحد بنود المعاهدة بشرط غاية في الإجحاف وهو: أن من ارتد عن الإسلام إلى عبادة الأصنام فله الحق بالذهاب لقريش، وليس من حق محمد أن يمنعه. ويقضي البند الآخر بإجحاف أشد وهو: أن من أسلم من قريش وجاء لدولة الإسلام فعلى محمد أن يرده؟ أيدرك هؤلاء ما الذي يعنيه هذان البندان؟ البند الأول يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقف مؤقتاً العمل بحد الردة عشر سنوات لمصلحة دولته وأمنها، وحقناً لدمائها، وتيسيراً لحياتها، ألستم ترون أن من يفعل ذلك يمارس نوعاً من الردة؟ الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بتسليم المجاهد الكبير (أبي بصير رضي الله عنه) لقريش عندما أراد الالتحاق بنبيه، (ومعظمكم يرى أنه يعيش حالة أبي بصير اليوم.. أليس كذلك؟) فتأملوا ما الذي فعله نبيكم بأبي بصير إنفاذاً لتلك المعاهدة: لقد قام بتسليمه لقريش، رغم معرفته أنه سيتعرض للأذى، ثم فر أبو بصير بنفسه وبدينه نحو نبيه ودولته في المدينة، فما الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المجاهد الذي لو جمعنا كل المجاهدين اليوم لما بلغوا معشار فضله. لقد أرسلت قريش (في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا؟ فدفعه صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين فخرجا به) - صحيح البخاري - لقد سلمه عليه الصلاة والسلام لأشرس دولة عادت الإسلام، ألا يدل ذلك على شناعة الغدر وأهمية الوفاء بالعهود. ويصل أبو بصير إلى منطقة ذي الحليفة (أبيار علي) (فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل والله إنه لجيد، لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه، فضربه حتى برد، وفر الآخر حتى أتى المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: لقد رأى هذا ذعراً. فلما انتهى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول) في تلك الأثناء وبينما كان المشرك تتقطع أنفاسه وكلماته رعباً وصل أبو بصير فقال: (يا نبي الله، قد والله أوفى الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم نجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد. فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر) - صحيح البخاري. لقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم هذا المجاهد (أبا بصير) لأعدائه مرتين، وهم بتسليمه الثالثة، لكنه هرب فعاش طريداً لا يجرؤ على دخول دولة الإسلام حتى تنازلت قريش عن ذلك البند، ولو لم تتنازل لظل طريداً مدة المعاهدة (عشر سنوات)، ثم إن أبا بصير لم يؤذ مسلماً طوال تلك الفترة، أو حتى يجد في نفسه على نبيه شيئاً. ألستم ترون أن تسليم المسلم للأعداء الكفار ناقض من نواقض الإسلام؟ أليس هذا في نظركم مظاهرة للكافر على المسلم؟ سؤالي: أيكم أعلم بدين الله وأتقى لله وأخشى، وأيكم جاهد في الله حق جهاده، أنتم أم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وصحابته عليهم رضوان الله؟ أم أنكم ستستدركون على نبيكم كما فعل حرقوص عندما قال: اعدل يا رسول الله؟ هذه الحادثة وهذه النصوص الواضحة الصحيحة ليست تضيء أهمية وخطورة المعاهدات والمواثيق في الإسلام فقط، بل إنها تكشف تلك المرونة الهائلة التي يمنحها الإسلام للدولة الإسلامية للحفاظ على كيانها وشعبها ومقدراتها ومكتسباتها، لا تلك المرونة التي يلوي بها البعض أعناق النصوص لتبرير قتل النفس والانتحار (يبعثون على نياتهم)، ولا تلك الميوعة التي يريد البعض بها التخلص من الإسلام بكليته. وأخيراً هذه دعوة أرجو بها وجه الله وحقن دماء بريئة، فلقد فعل نبينا صلى الله عليه وسلم ذلك كله وهو رأس دولة وقائد أمة، أما عندما كان شريداً بلا دولة، فإنه لم يرفع يوماً سلاحاً، ولم يضرب أحداً بيده أو يشتمه أو يغدر به، أخلاق سامية مع المشركين فكيف مع المسلمين، وأنتم اليوم أفراد بلا دولة ولا كيان، تترصدون بين أهلكم وأخوتكم المسلمين، وتؤذون آباءكم وأمهاتكم، وتجعلون من أنفسكم مقياساً لغيركم، فقارنوا سنتكم بسنته، أعيدوا قراءة سيرة نبيكم وسنته من الأحاديث الصحيحة فقط، لا من اجتهادات علماء عاشوا أزمنة وظروفاً ليست كظروفنا وزماننا، ومعها دعوة أخرى لهذا العالم الإسلامي النائم: صفوا ونقوا سنة نبيكم من النصوص الضعيفة والمكذوبة، فكم من حديث موضوع جعل الأمة تدفع غالياً من دماء أبنائها وأموالهم وطاقاتهم وإخوتهم.