درّبت نفسي، وروّضت مشاعري على مواجهة الموت بالحزن والصمت. أحزن، وأمضي صامتاً، وأمارس طقس الموت في حالة مستمرة من الشلل في التفكير، والمعاناة، والتفاعل، والخوف. يوجعنا الموت، يدمينا، يفتتنا، لكن الصمت هو أنجح وسيلة في المواجهة، نصمت داخل حزننا، ووجعنا، إذ أن الحقيقة الوحيدة في هذا الكون الواسع والكبير التي لا تقبل التأويل، أو التعليل، أو التفسير، أو المناقشة هي حقيقة «الموت». سقطت قناعات كثيرة، أو كانت قناعات. تلاشت مسلّمات. ربما كانت مسلّمات. تهاوت أفكار تشكل امتلاك الحقيقة، كانت تشكل امتلاك الحقيقة، واتضح أن لا حقيقة مطلقة إلا حقيقة «الموت».!؟ إذن: ليس لنا من أدوات لمواجهة الأوجاع، والداءات، والانكسارات، والهزائم النفسية، إلا أن نودع الراحلين، ونمارس الصمت، حتى خلال الطقس الجنائزي المهيب. ونتذكرهم، نتذكر فيهم النبل، والوفاء، والشهامة، والتعاملات الراقية المتماهية مع وعي، وثقافة، وسلوك حياتي فروسي لا يمارس الطعن من الخلف بأدوات الغيبة والنميمة، ومصادرة حق الآخرين في الخلق، والإبداع المهني، والحرفي، والثقافي. قبل فترة ودعنا عبدالله نور الذي سقط كنخلة أسطورية على رصيف شارع من شوارع أحياء الرياض القديمة التي أدمن حبها. ودعناه، وصمتنا. وقبل شهور ودعنا طلعت وفا، ذلك الزميل النقي العذب الذي أراهن أنه مات وليس له أية خصومات عملية، أو حياتية. ودعناه، وصمتنا. وأمس ودعنا «أبا خالد» محمد الجحلان. زميلا، وصديقا، ومثاليا، ومهنيا، تشاركْنا في الكثير من الهموم، والآمال، والتطلعات، والأحلام، ضحكنا كثيراً كما لو كان بنا جوع أبدي للضحك، وغنينا مواويل عشق ذابحة. ورحل محمد ومعه أشياء كثيرة نتذكرها. ودعناه، ونصمت. «كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ، ولم يسمر بمكة سامرُ» نختم، نحزن ونصمت.!؟