«نحن نحب الماضي لأنه ذهب، ولو عاد لكرهناه». توقفت طويلاً عند هذا المثل، تأملت دلالاته، حاولت أن أخدع نفسي بتصديقه، وأزرع في داخلي وهماً بأن هذا حقيقة، وخلصت إلى أن هذا - ربما - عند غيرنا، أما عندنا، في زمننا، في فضاء حياتنا فأحسب أن العكس صحيح جداً. زمن ماضينا أروع، وأنقى، وأجمل من زمننا الحاضر المأزوم، والمتأزم، والمؤزم في كل تفاصيل ومناحي الحياة ، ولا أحسب أنني أتجنى، أو في داخلي تشاؤم. في زمننا الماضي كنا نمتلك كثيراً، كثيراً جداً من الفرح الذي لا نتصنعه، أو نجهد في الحصول عليه، والتماهي معه. كنا نذهب إلى باعة الكتب على الرصيف المقابل لسوق وشيقر، ونشتري دوستويفسكي، وتولستوي، ومكسيم غوركي، وجان بول سارتر. وفي المساء نذهب إلى نادي الهلال لنستمتع بمحاضرة لفوزي البشبيشي عن شعر التفعيلة، أو المنولوج الداخلي في شعر السياب. وأمسية أخرى نذهب إلى نادي النصر لنحلق مع شيخنا وأستاذنا عبدالله بن خميس وهو يحاضر عن محسن الهزاني ويشدو «برقٍ تلالا، قلت: عز الجلالا أثره جبين صويحبي، واحسبه برق مبسم هيا، مثل البروق قلت: لا، لا بين البروق، وبين مبسم هيا فرق قالوا تتوب من الهوى، قلت: لا، لا إلا تتوب الشمس عن مطلع الشرق». وفي أمسية أخرى نذهب إلى أحد الناديين لنشاهد سندريلا الشاشة العربية سعاد حسني في فيلم «خللي بالك من زوزو»!! وعندما نثري أنفسنا ووعينا بهذا الفضاء الثقافي والفني المتوهج. نذهب إلى منازلنا ونجلس أمام التلفزيون السعودي لنحلق مع ذلك الكائن الاستثنائي السيدة النزيهة والفاضلة والعفيفة فيروز. «في لنا يا حُب خيمي ع الجبل ناطره تنزورها بليلة غزل راكعه الغيمات ع حدود لها ناشره النجمات من فوقا قُبل» ويأخذنا الوله، وتثار في دواخلنا مشاعر مرهفة، حالمة، شفافة، نقية ، ونصرخ «كان حبي شرفة دكناء أمشي تحتها لأراها، لم أكن أسمع منها صوتها إنما كانت تحييني يداها كان حسبي أن تحييني يداها» ثم أمضى، أسهر الليل إلى ديوان شعر «يا فؤادي رحم الله الهوى كان صرحاً من خيال فهوى أسقني، واشرب على أطلاله واروِ عني طالما الدمع روى». وكان طلال، ومحمد عبده، وعبدالله محمد يرفعون المواويل في حفلات نادي النصر، والهلال. إذن: سنبكي على الماضي، ونحبه أكثر من حب الشحيحِ ماله، فقد حوصرنا بالتلوث، والتخلف حتى الموت..!؟