أتابع باهتمام واحترام ما يكتبه معالي الأستاذ جميل الحجيلان. وإذ هو مقل في كتاباته إلا أن قليله يستحق التوقف والاهتمام والتفكير والمعاودة. وأجد أحيانا أن ما يطرحه من أفكار أو خواطر أو ما يستدعيه من التاريخ السياسي ليسقطه على بعض الوقائع، يتطلب التوقف والتأمل وإعادة القراءة للاقتراب من قضايا وحقائق لا يمكن تجاوزها. كتب الأستاذ قبل عدة أيام بعض خواطره من واشنطن في صحيفة الشرق الأوسط. استدعى تلك الخواطر أو استدعته من حضوره لمؤتمر اللجنة الأمريكية – العربية لمكافحة التمييز. وأستعيد من تلك الخواطر: "أن الإعلام الأمريكي لم يكن يوما رحيما بالعرب، فهو بين إعلام صهيوني، مغرق في صهيونيته، أو إعلام موالٍ لإسرائيل موالاة بارعة ذكية. يعزز من وجودها، ويحيطها بكل ما يرفع من شأنها من "صفات الرقي في الفكر الإنساني والأخذ بمبادئ العالم المتحضر في الحياة والديمقراطية". يقابل ذلك جهد محموم للإقلال من شأن العرب" الكارهين لإسرائيل، الرافضين التعايش معها، المسكونين برغبة الثأر منها، الانفعاليين في مواقفهم، الذي يفتقرون إلى روح التسامح والحوار". و"أن هذا وجه من وجوه السلبية في رؤية المواطن الأمريكي للعرب برعت الآلة الإعلامية الصهيونية الضخمة على امتداد عقود عديدة، في تحويلها إلى ما يشبه العقيدة لديه. وقد عجز العرب عن إجهاض هذه الأكذوبة الصهيونية الكبرى. وكانت هذه واحدة من إخفاقات العمل العربي في الخارج، بل ربما كانت أكبر إخفاق فيه". لتأتي "أحداث 11 سبتمبر 2001م بكل ما حملته من جرح لكبرياء الدولة، وكبرياء الأمة وعنف دموي مذهل وعمل إرهابي جهنمي لتصبح معاناة الجالية العربية في أمريكا ظاهرة سياسية واجتماعية... إنها غضبة على العرب وحاقدة عليهم وريبة في نواياهم منذ تلك الأحداث. وعزز من هذا صورة الإنسان العربي في ازدياد تشوها ببروز جماعات عربية حجرية الفكر، مناهضة للحياة، ركبت مركب الإسلام كي تمارس خطف الأبرياء وفصل رؤوسهم عن أجسادهم لتزداد كراهية الأمريكي لكل ما هو عربي". وتستدعي خاطرة الأستاذ جميل الحجيلان دور الجمعيات العربية الأمريكية، والجمعيات العربية الأوروبية كإحدى الأدوات المهمة في العمل السياسي الخارجي المؤثر إذا أُحسن تنظيمها، واستقام أداؤها، وبقيت بمنأى عن محاولات التسييس العربية والتنافس الداخلي حول إدارة المسئوليات. وانه لن يتسنى لها أمر كهذا إلا في ضمان تمويلها تمويلا مستقلا، مستقرا، يجنبها محاولات التأثير عليها من هذه الدولة أو تلك، شأنها في ذلك شأن الجمعيات الأخرى العاملة باستقلال، في حقول الدفاع عن الوطن ومصالحه في الخارج. وإذ اتفق مع الأستاذ في كل هذا اتفاقا تاما، إلا أن هذه الخواطر أعادتني لقضية ذات صلة بهذا الموضوع، وهي تتجاوز معاناة جاليات عربية في أمريكا أو أوروبا نتيجة لانحياز الآلة الإعلامية الغربية ضد العرب، سواء كان هذا الإعلام صهيونيا معاديا للعرب بطبيعة الحال، أو يمنيا متطرفا متحالفا مع الصهيونية وإسرائيل، وهو أن هذا الإخفاق العربي في الدفاع عن الذات العربية ضد هذا التمييز يأتي أيضا من عجز العرب كدول ومجتمعات عن تقديم نماذج للحياة العربية قابلة للتقدير واحترام للمنجز، فالمواطن العربي لا يمكن التعامل معه باعتباره إنسانيا، فردا منقطعا عن بيئته الأولى، أو مبتوت الصلة بها. ولذلك، فإن محاولة تحسين صورة العرب في الخارج، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بما فيه الاستعانة بشركات العلاقات العامة لدرء تلك الهجمات الشرسة عنا إعلاميا، ربما صرفنا عن مسألة جوهرية وذات قيمة كبرى في تكوين المواقف وبناء التصورات، وهي أن الشعوب التي تستحق الاحترام هي تلك التي استطاعت بناء نماذج داخلية جديرة بالتقدير. واستطاعت أن تحقق منجزا في بناء الإنسان يستحق الاعتراف، واستطاعت أن تصنع مستقبلا أفضل للإنسان داخل أوطانها. تقيس الأمم الحية تقدم الشعوب بقدرتها على اجتراح معجزة نهوض، سواء في المجالات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. مشكلة كثير من العرب أنهم لا يريدون الاعتراف أن العلاقة مع الآخر -الأمريكي أو الأوروبي- لإثبات حق الوجود وحق التقدير وحق الاحترام، إنما تأتي أيضا على قاعدة الانجاز. ومع تقدير دور الجمعيات العربية الأمريكية أو الأوروبية في مكافحة التمييز ضد العرب ودفاعها عن حقوق العرب على قاعدة المواطنة في تلك الدول .. إلا أن المهم إدراك أن هذا التمييز يستمد بقاؤه وتأثيره أيضا من ضعف العرب داخل أوطانهم. لا يمكن أن نقاوم التمييز الخارجي، ونتجاهل أن كثيرا من العرب في بلدانهم الأصلية لم يصلوا بعد إلى بناء نموذج ضد التمييز بين مواطنيهم. هل يمكن أن يرانا الغرب كما نحب أن يرانا دون أن نرى أنفسنا كما نحب؟ من المؤكد أن هناك إعلاما صهيونيا نافذا استثمر كل هذا لمزيد من تشويه صورة العربي وتعزيز التحالف مع الغرب. ومن المؤكد أن هناك تمييزا قد يطال المواطن الأمريكي أو الفرنسي أو البريطاني من أصل عربي لا يحتاج إلى تأكيد. ومن المؤكد أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر خلفت أثرا بالغ السوء في علاقة العرب بالدول الغربية وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، حتى أصبح كل عربي مشبوها، إلا أن المهم أيضا إدراك أن هذه الكارثة هي نتيجة تفاعل قضايا كثيرة لم يُصنع من اجل مقاومتها الكثير في مراحل كانت تستحق تقديم البديل الذي يعطل هذه النزعات التدميرية للذات، وأخيرا قدمت لنا تفجيرا مدويا في الداخل والخارج. إن جزءاً من علاج حالة العداء التي يغذيها الإعلام المعادي للعرب يتطلب تقديم نموذج إنساني محترم بعيدا عن التمييز، ويرى حقوق المواطنة جزءا لا يتجزأ من قيم الدولة والمجتمع، ويصون هذه الحقوق بالقانون والنظام والتشريعات، دون ذلك لن يكون بمقدورنا أن ندافع كما يجب عن حقوق العربي الأمريكي أو العربي الأوروبي ضد التمييز ونحن لازلنا نمارس أشكال التمييز ضدنا!!. وكثير من العرب الذين هاجروا للغرب ليس حبا بالغرب ولكن لأن أوطانهم لم تعد قادرة على استيعاب احتياجاتهم وحقوقهم وآمالهم وتطلعاتهم. أما إسرائيل التي زُرعت في خاصرة المنطقة العربية، فلا شك أنها من عوامل بقاء الكراهية بين العرب والغرب. الانحياز الغربي لإسرائيل التي دعمها منذ نشأتها خلف شعورا عربيا متوارثا بعدائية لا تنفك تذكر العرب بمأساة فلسطين والفلسطينيين. هذا الجرح المفتوح لن يكون من المتيسر اندماله على نحو يسكت الإعلام الصهيوني أو الموالي لإسرائيل ولا يتوقع أن يندمل بيد العرب لأنهم اليوم في أفضل حالاتهم في مستوى البقاء عند حدود الممانعة لا حدود المواجهة الحضارية الكبرى. وإذا كان من نتيجة ايجابية للأحداث المتلاحقة خلال الأعوام القليلة الماضية في المنطقة العربية، فهي إدراك عقلاء الغرب أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية هو جزء من الخطر المحدق بالغرب نفسه، وأنه المحرض الأكبر على الكراهية والعداء، وان جماعات التطرف والإرهاب استثمرت هذا الوضع في مشروعها التدميري. وجزء مهم من خطبة الرئيس الأمريكي باراك أوباما للعالم العربي والإسلامي كانت رسالة واضحة في قراءة هذه المسألة من هذا الوجه تحديدا. لم يقوَ العرب على تقديم مشروع مقاومة من خلال بناء أوطان غير قابلة للاختراق تقوم على قاعدة المواطنة والانجاز الإنساني لتصبح شهادة أمام العالم الغربي، ولم يحققوا مشروعا علميا أو اقتصاديا أو اجتماعيا قادرا على المواجهة، واكتفوا بالحروب الكلامية والخطابية التي انتهت على عناوين بارعة استغلها ولازال إعلام صهيوني مدعوم ضدهم. ومهما كان الأمر فإن إسرائيل تبقى بالنسبة للغرب دولة ديمقراطية، حتى لوكانت ديمقراطية على مقاس حسابات الدولة اليهودية الرافضة لحق الحياة لغير اليهودي، والتي لا تتورع أن تمارس أبشع صنوف التهجير والتدمير والإبادة ضد العرب. بقيت إشارة لافتة من الأستاذ في خواطره الجميلة من واشنطن. وهو تذكيره بأن من قام بتأسيس لجنة التضامن الأمريكية العربية لمكافحة التمييز هو جيمس أبو رزق عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السابق وهو لبناني مسيحي، وان من يرأسها حاليا هو الدكتور صفا رفقة وهو أيضا طبيب لبناني مسيحي.. ويذكرنا أيضا بان آل تقلا وآل زيدان هم رواد الصحافة في مصر قبل مائة عام، وإليهما يرجع الفضل في تأسيس دار الأهرام ودار الهلال، وهم من مسيحي لبنان، وان الانتماء للعروبة والاعتزاز بهذا الانتماء ليس وقفا على دين دون آخر. وأزيد على هذه الخاطرة اللافتة أن لمسيحيي الشرق، ولبنان -خاصة- فضلا كبيرا في خدمة اللغة العربية حاضنة هذا الانتماء، فلم يخدم هذه اللغة منذ بدايات القرن الماضي ولم يعمل على استعادتها لحاضنة التأثير اليومي ثقافيا كما فعل مسيحيو لبنان. وأن المنطقة العربية، من العراق إلى الشام إلى مصر تخسر كثيرا، وكثيرا جدا، لو فرحت بنزوح أو تهجير هذه الطوائف التي طالما كانت تنوعا جميلا على الأرض العربية. وأنها جزء من نسيج عربي تاريخي، تبقى لها حقوق الانتماء والبقاء وتعزيز حضور مشهد الإنسان بتعددية ثقافته الخاصة، وضمن حاضنة الانتماء العربي العام. وأن كل محاولة لتصفية وجود تلك الطوائف، هو تعقيم لقدرة هذه المنطقة على إنتاج ثقافة التسامح والتعايش على قاعدة حقوق المواطنة لا سواها.