وذات مساء والليل والصمت والسكون يخيم على المكان، هكذا ربما كانت بدايات كثير من الكتابات في الزمن الجميل. الآن أصبح الليل ضجيجاً لا سكون ولا هدوء فيه، انقلب سهراً ضاراً بكل تبعاته ومشتقاته ومتطلباته. لم يعد الليل أبو الأسرار ولا الأفكار ولا الأشعار. المدينة لا تمل من الضجيج والقرية لا تغفو، بل هل توجد ثمة قرية برائحة الطين والنخيل كما قال عبدالله الناصر، وهل توجد شوارد حالمات، بل هل توجد ثمة شاردة أو واردة، أم هل يوجد "خلواً من الهم يعنيها وتعنيه" كما قال الجواهري أم هل يوجد من يجلس "مثل الرضا في صدر من صلى العشا بنعاس" كما قال مبدع عامي جميل. هي الآن مساءات وجع الآلة وضجيجها، والأسمنت وثقافته المتحجرة في كلا الطرفين من الخرسانة القاسية والأرواح الصلبة كالحديد بداخلها. ربما أكتب هذا لأني ربما من آخر جيل ذاق الحياتين والبعدين والمساءين. وربما أكتب شفقة حينما أرى الأطفال كالالآت يقلبون في الآلات الآتية من الشرق على صفيح آلات آتية من الغرب والشمال بلا وسط ولا جنوب فهما مهملان إلا من الاستهلاك والاستغلال والعبث والأوجاع. ماذا تتوقع من طفل حينما يكبر ولم ير ليلاً بكل مكوناته في حياته أبداً، لم ير النجوم ولم ير القمر ولم يحاكيه ولم ينم على تأملاته وخيالاته وأحلامه - أي طفولة معذبة تكون - وأي يفاعة وشباب سيكون؟ حتى الحب - تلك القيمة الثمينة - لم تعد تمارس كنشاط إنساني فطري بنقاء، لم يعد صاحبه إن وجد مقبلاً باسماً أو متيماً حالماً عاشقاً للحياة. أصبحت المادة سيدة الموقف فيه ومعيار السعادة الوحيد معه. ألم نصبح نتعامل مع الآلة مشاهدة ولمساً وذوقاً وسمعاً وحتى رائحة، بل ألم نصبح آلات محمولة في آلات معروفة لآلات مجهولة؟ ألسنا نسخر من أنفسنا حينما نبني خيمة في سور الخرسانات القاسية أو غرفة طين يستعار منه لونه فقط كذباً وبهتاناً ثم نسميه ملحقاً ندلف إليه عندما يرهقنا المسير ويأخذنا وله الخروج من الرخام والنظام، أم هو الحنين بعينه وروحه ورائحته المفقودة لزمن لا يعود؟ قليلاً من الهدوء وكثيراً من الحب من أجل صحتكم، ودعوة صادقة للابتسام في شوارعنا وأماكن عملنا، وإن كان محالاً ففي بيوتنا على الأقل، أرجوكم.