كمدخل لمعالجة الكثير من القضايا الاقتصادية والاجتماعية - والتي سوف نناقش بعضها في هذه المقالة - أعتقد أن المملكة في هذه الفترة التي شهدت إطلاق عدة مشاريع وطنية طموحة ومخلصة ومبادرات تطويرية كبرى وفي وقت قياسي، بحاجة إلى خطة متكاملة لحل مشكلة تدني أجور فئات عديدة من المواطنين، وبخاصة في المناطق الأقل نموا، ومعالجة الخلل الهيكلي في سوق العمل، حيث إن غياب هذه الخطة زاد من – أو حافظ على - مشكلتي الفقر والبطالة الرجالية والنسائية، إضافة إلى إشكاليات أخرى وسلبيات كبرى . وربما تكون من أهم الآليات في هذه الخطة وضع حدود دنيا للأجور، لموظفي الحكومة والقطاع الخاص والمتقاعدين ، وفقا لطبيعة الوظائف ومستوى التأهيل، وذلك للحد من الفقر قبل وقوعه ، وحتى لا تتقلص الطبقة الوسطى ، إذ أن السبب الأول لزيادة نسبة أصحاب الدخل المحدود في تقديري هو تدني الأجور وليس البطالة وبالتالي فلن يحل مشكلة تزايد هذه الفئة توفير وظائف للعاطلين عن العمل بأجور أقل من ثلاثة آلاف ريال وتقل أحيانا في القطاع الخاص عن ألفين ريال، والتي أعتقد أنها لا تكفل الحياة الكريمة للأسرة في المملكة، وبخاصة حين يكون عائلها شخص واحد في ظل هامشية فرص العمل المتاحة للنساء التي كان يمكن أن تدعم دخل الأسر الفقيرة. طبعا الكثير من المسئولين يعارض وضع حدا أدنى للأجور لصعوبة تنفيذه ويضع مبررات عديدة ، أغلبها غير منطقي من وجهة نظري ، ويتعارض مع المعمول به في الدول المتقدمة والغنية ، حيث تركز هذه المبررات فقط على السلبيات والمحاذير، بينما من المعلوم وفقا لأبجديات التنظيم الإداري أن هناك إيجابيات وسلبيات لكل تغيير أما بقاء الوضع على ما هو عليه فقد يتضرر منه الجميع، حيث يتطور الآخرون ويبقى العاجز عن التغيير أسيرا لحسابات الربح والخسارة لهذه الفئة أو تلك وأسيرا للمحاذير المحتملة التي تجعله يغلق باب التطوير سدا للذرائع ، ليبقى الخاسر الأكبر هو المجتمع. من جهة أخرى فإن العديد من المتخصصين يؤكدون أن المستجدات الاقتصادية تستوجب إعادة تقييم الأسعار الحالية للسلع والخدمات في المملكة التي تقدم في الغالب بسعر يقل عن تكاليفها، أو يقل عن أسعارها بكثير عن معظم الدول الأخرى ، ومنها الكهرباء والمياه البنزين والديزل ، داعمين رؤيتهم بالعديد من المبررات الموضوعية ، ومنها ما يتحمله الاقتصاد الوطني من عبء كبير، وما يتم تخصيصه في الميزانية العامة لهذا الدعم (والذي يمكن توجيهه مثلا لحل مشكلة تدني الأجور) وما تتسبب فيه تلك الأسعار من هدر خطير لمواردنا الطبيعية، مع عدم نجاح حملات المطالبة بالترشيد، وما تؤدي إليه في بعض الحالات من صعوبات في التنفيذ الصحيح لبرامج التخصيص بما تضمنته من أهداف تصب في مصلحة المواطن، وكل هذه الجوانب تمثل قضايا وطنية هامة جدا يجب التعاطي الجاد والشامل معها، وليس مطالبة المتخصصين بالسكوت عنها بدعوى عدم إثقال كاهل المواطن ، وبالتالي بقاء الوضع بسلبياته على ماهو عليه . ولكني أرى من المهم قبل رفع أسعار إحدى السلع أو الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن ، أن يسبقها أو يرتبط معها خطة متكاملة لحل مشكلة تدني الأجور كما سبق الإشارة ، إذ أن بلادنا بحاجة في كل الأمور وبخاصة في هذا الموضوع تحديدا إلى خطط "عملية" شاملة تراعي مصالح جميع الأطراف وتدرس من كافة الجوانب، وفي حال الموافقة عليها يتم رصد كل ما تحتاج من مبالغ لتنفيذها بحيث لا تكون مثل خطط التنمية. والخطط الشاملة لمعالجة قضايا متداخلة ومترابطة لا يمكن الإشراف على إعدادها وتنفيذها بفاعلية من قبل جهة تنفيذية واحدة، والذي أدى إلى تعثر العديد من الإستراتيجيات المعلنة، بل يجب أن يتم من قبل جهة عليا مثل المجلس الاقتصادي الأعلى أو مجلس الوزراء ، أو من قبل مجلس الشورى في حال زيادة صلاحياته وتفعيل دوره.