أتيت في المقال السابق على شرح بيتين لشاعر مجهول قال: يا فاطري روحي مرواح سيارة مرواح فرت مصندق فيه مرّية تبغى تدور سروق ضاعت اخباره يقصه العرق ما قصه عليميه ومن الشرح تناولت فئة قصاصي الأثر، أو (المرّية ومفردها مرّي بحسب الاصطلاح الشعبي). ونقلت عن واحد من البارعين في هذا (الفن) بعض أسرارهم، وقلت إن الإنسان متى توافرت فيه مزايا شخصية منها الفطنة والذكاء والذاكرة المتقدة والقدرة على التركيز والتعايش مع بيئته الصحراوية فسوف يكتسب مهارات في ميدانها قد تبدو للبعض أنها خوارق للعادات. هناك مجموعات من هواة الصيد بالصقور وكلاب الصيد لديهم مهارات مثيرة. فهاوي الصيد بالصقور قد لا يميز أثر البشر ولا الحيوانات باستثناء طريدته المحببة وهي الحبارى، فالعثور على ما يسمى (جراير الحباري)؛ أي الأثر الذي ترسمه أقدامها على الأرض هو أول فصول الإثارة والمتعة واستعراض المهارة التي لا شك أنها ناتجة عن التعلق بالهواية والرغبة في العثور على الحبارى وكثرة التجارب في الميدان. وقد يبدو غريباً على من ليس له علاقة بهذه الهواية أن الصقار الماهر يستطيع تحديد توقيت رسم الأثر (الجرة) واتجاهه وما إذا كانت الحبارى ذكراً (خرب) أو أنثى (دجاجة)، والمكان الذي طارت منه (المطير)، هذا فضلاً عن أنه يقرن الأثر ودلالاته بعلامات أخرى فيستطيع تحديد سلوكها ومدى قربها منه بالنظر إلى خواص فضلاتها. ومثل الصقار هواة صيد الأرانب البرية، فالحاذق من هؤلاء بمقدوره أن يحدد من الأثر جنس الأرنب، وهل كانت ترعى عند مشيها أم تسعى إلى جحرها، وهل هي مكتملة النمو أو صغيرة (خرنق أو خرينق). أيضاً الصيادون قديماً كانوا يعرفون الغزلان وأنواعها وحالتها الجنسية من الأثر. من جانب آخر، روى لي أحد كبار السن قصة طريفة حدثت له شخصياً إبان بدء انتشار استخدام السيارات في المملكة فكان يحمل أغناماً جلبها من المرعى إلى سوق إحدى القرى في شاحنة صغيرة يقودها، ولأنه لا يجيد القيادة ارتبك عند مدخل القرية قبيل سوق الماشية أمام كومة كبيرة من الرمل صدمها فانكفأت السيارة على جانبها وسقطت الأغنام، وفي مثل هذا الموقف ينصرف تفكير الإنسان وتدبيره إلى سلامته أولاً، ولم يتنبه إلى أن الأغنام ليست بجانب السيارة إلا بعد أن ذهبت إلى حال سبيلها، فبحث عنها في أكثر من اتجاه وأخيراً بدأ يتبع أثراً توقع أنه لأغنامه لكنه أوصله إلى أغنام أخرى معها راع فطلب منه المساعدة في البحث، ولما عرف الراعي أن عددها ثلاثون رأساً وأن نوعها (شياه نعيم) أي كلها إناث من النوع النعيمي. يقول هذا الشيخ كلما شاهدت أثراً وهممت بتتبعه يعترضني الراعي فمرة يقول: (هذا أثر أكثر من ثلاثين) ومرة أخرى (هذا أثر شياه معها فحول) وثالثة: (هذا أثر شياه نجد: أي من النوع النجدي)، ورابعة: (هذا أثر بهم: أي صغار الضأن). وتأكد الرجل أن الراعي لا يتحدث من فراغ بعد أن عثرا على الأغنام. ولا شك أن في معرفة الراعي لآثار أنواع الأغنام وتحديد جنسها نتيجة خبرة متراكمة في التعايش مع هذه الحيوانات. إذا لا غرابة أن يكون المرّي (قصّاص الأثر) - قديماً - ماهراً في تتبع الأثر البشري وتحديد الشخص الذي يعود إليه، خصوصاً أن الحالة أو الوضع السياسي المضطرب قبل توحيد المملكة يتطلب أن يكون لدى الجماعة أو القبيلة شخص أو أشخاص توكل إليهم مهمة اكتشاف آثار الغرباء. أو السارقين ومرتكبي الجرائم. بل إن الحذق في قص الأثر يكون أشد ويشيع بين أبناء القبيلة إذا كانوا يقيمون في مناطق الكثبان الرملية لأن الأثر يصبح مرسوما بتفاصيله حتى لو كان لنوع صغير من الحشرات أو الزواحف بخلاف المناطق الجبلية والصخرية التي يصعب اكتشاف الأثر فيها، ومن هنا نفهم التميز في قص الأثر لدى القبائل التي كانت تسكن في مناطق الربع الخالي والدهناء والنفود الكبير وإن كان الربع الخالي ميداناً أكثر اتساعاً. وبالمناسبة كان البسطاء قديماً لديهم تفسير غريب هو محض أساطير وجهل لا زال معششاً عند بعض كبار السن الذين لم ينالوا حظاً من العلم والمعرفة إذ يرجعون المهارة في قص الأثر عن قبيلة ما إلى الاعتقاد (أن إحدى جداتهم من الجن). من القصص الغريبة التي تدل على أن قصاصي الأثر ينظرون إلى عوامل وقرائن أخرى في تحديد معالم الأثر وبالتالي صفات أصحابها ما يروى أن أحد أبناء الصحراء كان ذاهباً للتزود بالماء من نبع وبرفقته ابنته، وكان الأمر يحتم عليه تجاوز حفرة تعترض مكان الماء فنزل من الراحلة وقفز وطلب من ابنته أن تقفز بعده، ولما اطمأن إلى أنها بلغت مكان الماء طلب منها تعبئة القربة ريثما يقوم على أمر راحلته، لكنه لاحظ أن خطوات ابنته أصبحت واسعة بعد القفز فعرف أنها تأثرت من القفز ونتج عنه سوء سيلقي بظلاله على شرفها عندما تتزوج، فما كان منه إلا أن نادى على نسوة من القبيلة وبعض رجالها وأشهدهم على ما حدث لابنته لئلا يلحقها العار فيما بعد. بعيداً عن صحة هذه القصة فالشاهد أن مسألة تشخيص الأثر تعتمد أحياناً على قرائن أخرى يستنتج منها (المرّي) معلومات عن طبيعة الشخص وحالته النفسية. وبصرف النظر عن الاختلافات حول ما إذا كانت قدرة الشخص على قص الأثر والاستنتاج تأتي كمهارة مكتسبة أو موهبة متأصلة أو إلهام كما يزعم البعض أو تخمين وحدس يعتمد على التعايش والتعامل مع البيئة وطبيعة البشر والأرض والحيوان والنبات، ومن ثم الربط فيما بين القرائن التي تفضي إلى الحقائق، بصرف النظر عن ذلك، فإن قص الأثر يعتبر واحداً من (المعارف) التي عرفت عند العرب منذ الجاهلية الأولى باسم (القيافة).. وللمقال بقية.