شارع الخباز.. شارع المدير.. شارع العيش (الرز).. شارع الاسطوانات، كلها أسماء أطلقت على الشارع الذي يخترق حي الرفعة الوسطى في مدينة الهفوف باتجاه شرقي غربي لينتهي عند الجهة الشمالية لسوق القيصرية التاريخي، حيث لم يكن يتجاوز عرضه الثمانية أمتار وطوله نحو 700م . تعدد الأسماء وإطلاقها على شارع واحد دلالة واضحة على عظم وأهمية هذا الشارع، مما حدا بكل أرباب حرفة أو منتج نسبته إليهم ليكون لهم دون غيرهم، وليبقى يحمل اسمهم ليعززوا مكانتهم في وسط شارع كان يمثل بمثابة شريان الحياة لأهل الاحساء، أو حتى زوارها من دول الخليج أو الأمريكان أو الإنجليز الذي كانوا يعملون في شركة أرامكو.. الخبازون هم من نالوا الاسم الأول له لكونهم الأوائل الذين دلفوا هذا الشارع الذي كان يضم أربعة أو خمسة من خبازي التنور الحساوي، ليعقبهم أول مدير شرطة للاحساء في عهد المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله وهو سالم شوقي الذي اختار شارع الخباز الذي كان يعد أهم شوارع الهفوف في بداية فتح الملك عبدالعزيز للاحساء ليكون مقراً لسكناه، وذلك في أوائل الستينات الهجرية، ثم أطلق سكان القرى الشرقية ومزارعوهم على هذا الشارع بشارع العيش، إذ كانوا يجلبون إنتاج حقولهم الزراعية من العيش الحساوي ليعرضونه للبيع إما في هذا الشارع وإما في الشارع الذي يليه وهو الشارع المقابل لسوق القيصرية الذي كان مكان سوق الخميس قبل أكثر من قرن مضى. أما اسم شارع الاسطوانات الذي أطلق على شارع الخباز فأطلقه محبو الفن الشعبي الذي كان يعج به هذا الشارع، والذي كانت الاحساء إحدى مناطق الخليج (إضافة إلى البحرين والكويت)، الذي شهد رواج هذا الفن خلال تلك الحقبة الزمنية التي اتصفت بالانفتاح. إطلالة على الشارع تحدث ل «الرياض» المؤرخ جواد الرمضان عن شارع الخباز، وقال: كان الشارع يضم مباني مكونة من دورين، وكانت توصف في تلك الفترة ب (العمائر)، فكانت هناك عمارة آل القصيبي وآل العجاجي، ثم تحولت واحدة منها إلى مستشفى، ثم تحولت إلى مركز شرطة، مشيراً إلى ان شارع المدير هو طريق الأمير سعود بن جلوي أمير الاحساء في عهد الملك عبدالعزيز الذي كان يسلكه في طريقه لمزرعته، أو أثناء توجهه إلى جبل القارة الذي كان يذهب إليه خلال أيام الصيف مصطحباً معه أسرته، وفي مدخل الشارع من جهة الشرق توجد دروازة سميت بدروازة الخباز، التي كان يعبر منها سكان القرى الشرقية القادمون إلى داخل الهفوف، وبالقرب منها موقع منخفض كانت تتجمع فيه مياه الأمطار يطلق عليه (الخِرّ) وكان مخصص لبيع التمور. وأضاف أن الشارع يحمل اسماً آخر وهو شارع العيش (الرز)، فكان مزارعو ضواحي الرز الحساوي يجلبون إنتاجهم من الرز إلى الهفوف، وكانوا يسلكون هذا الطريق في طريقهم لبيع إنتاجهم في سوق الخميس، ويوازي شارع الخباز شارع الحدادين الذي كان مخصصاً لسير «الحمير» التي تنقل الحطب وسعف النخيل، حيث يلتقيان عند دروازة الخباز، وكان لشارع الحدادين دروازة صغيرة خاصة به، موضحاً أن شارع الخباز يضم بعض الدكاكين الصغيرة، وفي امتداد شارع الخباز باتجاه الشمال يوجد مبنى المالية في عهد الملك عبدالعزيز في عمارة آل الغنيم، وكان يديرها مدير مالية يدعى محمد افندي العبدالهادي وكان أيام العثمانيين وعند فتح الملك عبدالعزيز الاحساء أقره في منصبة إلى أن أحيل على التقاعد. النجارون على امتداد الشارع المواطن أحمد بن عبدالوهاب بوحسن «الذي عاش في هذا الشارع لمدة 50 عاماً» قال إن شارع الخباز شهد افتتاح أول استديو في الاحساء، وهو عائد لمواطن بحريني،ثم افتتح رجل الأعمال المعروف ياسين الغدير أول مشروع له وهو استديو، ليصبح فيما بعد أحد أكبر رجال الأعمال في الاحساء، موضحاً أنه يوجد في امتداد شارع الخباز بعض النجارين يصنعون أدوات الركائب والهوادج لأهل البادية، كما كان أهل القرى الشرقية يأتون إليه لتقليم حوافر حميرهم لدى أشخاص كانوا يمارسون هذه المهنة، وامتداد شارع الخباز باتجاه الغرب يؤدي إلى قصر الإمارة في الكوت، وكانت دروازة الخباز بمثابة جمارك. تمازج الأطياف ويصف المهندس عبدالله بن عبدالمحسن الشايب أحد المهتمين بالتراث ومدير فرع جمعية علوم العمران بالاحساء شارع الخبازبأنه كان شارع يضم كل الأطياف والأمزجة، ويمثل صورة من صور التسامح الديني والبساطة الاجتماعية التي تتصف بها الاحساء على مر تاريخها. ففي الوقت الذي كان المار في الشارع «آنذاك» يسمع صوت مكبرات الصوت تصدح بالأغاني الشعبية للفنانين الشعبيين المعروفين، كان كذلك يستمع لأصوات المسجلات لقرّاء القرآن الكريم والأدعية والخطب الدينية لجميع المذاهب. ويقول سعد الغريب أحد محبي الفن الشعبي إن هذا الشارع كان يسمى بشارع الاسطوانات، فكان يرتاده محبو الفن الشعبي لشراء الاسطوانات، وقال صلاح عبدالرحمن الزامل «بائع أعواد منذ 30 عاماً» أنه كان يباع في الشارع أدوات الطرب والموسيقى كالعود والطّار والطبول، كما أنه كان مكاناً لصناعة تلك الآلات، كما كان فيه منزل أشبه ما يكون بالأستديو، مخصص لتسجيل الأغاني الشعبية، ولهذا كان مقصداً لمحبي الفن الشعبي من دول الخليج والمملكة، إلا أن ذلك لم يمنع رجال الدين والمشايخ ووجهاء الاحساء من ارتياد هذا الشارع الحيوي والهام. تنوع فريد كان يوم الخميس اليوم الذي يشهد فيه شارع الخباز اكتظاظاً بالمتسوقين القادمين من كافة قرى الاحساء وباديتها، حيث كانت تعرض فيه منتجات النخيل، كما أن البادية كانوا يجلبون منتجاتهم لتعرض للبيع في دكاكين هذا الشارع، وفي نهاية الشارع مكان مخصص للخرازة، وصناعة الأحذية «الزبيرية»، كما يضم دكاكين للقطانة، والتمور والأسماك، إضافة إلى النجارة ومواد الأثاث، وبيع مكائن الخياطة، كما كان يشهد الشارع إقامة الحدود الشرعية، فكانت الناس تتجمهر فيه لمشاهدة تنفيذ الأحكام. ومن الأمور المميزة للشارع أنه كان مكاناً لممارسة مهنة الطبابة الشعبية للمصابين بالكسوروالرضوض، كما كان مكاناً لختان الأطفال، وتباع أدوات الحواجين والعطّارة والطب الشعبي. ويصف المهندس عبدالله الشايب الباعة في المحلات بأنهم كانوا يتميزون بالفراسة في معرفة الأشخاص المارين أو المشترين، فيعرفون المار من أي قرية قادم وإلى أسرة ينتسب، وذلك عبر ملامح الوجه أو من خلال اللهجة التي يتحدثها، كما كان أصحاب الدكاكين سريعين في الصداقة مع المارة، إلى الحد الذي وصلت معه الأمور إلى حد الثقة مع الأشخاص المتكررين على الشارع، لذا كانوا يبيعونهم بالآجل، وإرجاع بعض السلع في حالة عدم مناسبتها، فكان التعامل أريحياً ويتسم بالبساطة إلى درجة كبيرة. خياطة البشوت ولأهمية شارع الخباز التجارية والاقتصادية، لذا كان من الطبيعي وجود واحدة من أبرز وأهم الحرف التي كانت ولاتزال «حتى يومنا هذا» تشتهر بها الاحساء ألا وهي خياطة البشوت، فكان هناك محلات قليلة لبيع البشوت، ويرجع سبب قلتها إلى وجود الأغلبية في سوق القيصرية الملاصق للشارع من جهة الجنوب، كما كان هناك دكاكين لبيع الحاجيات المرتبطة بخياطة البشوت، كبيع خيوط القيطان والزري. والمتتبع لتاريخ الاحساء لن يغيب عن مخيلته كيف أن الاحساء كانت تمثل جسراً أو ملتقى تجارياً بالغ الأهمية للمملكة ودول الخليج، فكانت البضائع تنتقل من العقير إلى نجد مروراً بالاحساء، وهكذا انتقال البضائع بين الكويت إلى قطر عن طريق سلوى وإلى الإمارات والعراق والعكس مروراً بالاحساء، وهذا يتضح جلياً عبر وجود أسر تجارية حساوية في الأصل موجودة في الكويت والعراق، ومن بين التجارة التي كانت رائجة آنذاك تجارة البشوت والتمر. الشارع وتحول آخر! ويشير الشيخ جواد الرمضان أن شركة أرامكو افتتحت لها في أوائل الستينات الهجرية نهاية شارع الخباز مكتباً للتوظيف «في دلالة على أهمية هذا الشارع ومكانته»، وخلال بداية الستينات الهجرية بدأ الشارع يشهد إنشاء المطاعم والمقاهي، ولجأ بعض أصحاب البيوت القريبة من الشارع إلى تحويل بيوتهم إلى مقاهي، فوضعت كراسي الخشب المعروفة في الماضي خصيصاً للمقاهي، وبدأت شهرة تلك المطاعم والمقاهي تذيع بشكل متسارع، فكان سائقو الشاحنات القادمون من الحجاز» من مكة والمدينة « يرتادون هذه المقاهي خلال نقلهم للبضع من وإلى الاحساء. البلدية ومرحلة نوعية لافتة وفي خطوة نوعية رائعة لاقت كثيراً من التقدير من المواطنين والمحبين للآثار والتاريخ لبلدية محافظة الاحساء ممثلة في رئيسها المهندس فهد بن محمد الجبير، تمثلت في قرار البلدية في تطوير وسط الهفوف وإحياء تراث وتاريخ خمسة أحياء وهو أحد مشاريع إحياء المدن التاريخية في الملكة، والتي سبق وأن امتدحها سمو الأمير سلطان بن سلمان واعتبرها عنصر جذب مهم. المهندس فهد الجبيرأشار في حديثٍ ل (الرياض) أنه ستكون هناك مناطق حرة للمشاة والسائحين للإطلالة على هذه الأحياء، مؤكدين إلى أنه قد تم وضع العناصر التراثية بشكل متكامل، بالتعاون مع الهيئة العامة للسياحية، موضحاً أن التطوير سيطال خمسة أحياء قديمة، هي: حي الكوت، والرفعة، والنعاثل، والطالعية، والعسيلة، مشيراً إلى أن الأحياء سوف تشتمل على العديد من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، والتسويقية، إضافة إلى البعد التاريخي والثقافي.