العجوز في التعبير الأدبي.. تحت هذا العنوان أجرى الاستاذ طامي السميري تحقيقاً جميلاًً حول الصورة الشائعة للعجوز في التراث السردي عند العرب، وقد سجل ضيفاه في ذلك التحقيق ملاحظات عديدة حول صورة العجوز، أبرزها ما ذكرته الدكتورة لمياء باعشن من أن العجوز قد «ظلت محرومة من القيام بدور هادف وإيجابي في السرديات الأدبية»، وكذلك تساؤل الدكتور إبراهيم الدغيري حول الفرق بين (الشايب) و(العجوز)، وإشارته إلى أن تفضيل السارد لشخصية العجوز يعود لاكتناز شخصيتها وقابليتها للتشكيل الفني، وكذلك «قدرة العجوز على التلوّن في الأدوار فهي تفعل الفعل ونقيضه، وتنطق بالحكمة والهرطقة، وتقوم بالتصرف الحسن والقبيح من غير أن يكون ذلك شذوذاً في شخصيتها». وكنت أعكف في أثناء نشر ذلك التحقيق على تتبع أنماط شخصية العجوز في كتاب (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب) للشيخ عبدالكريم الجهيمان بأجزائه الخمسة، ووجدت بأن شخصيتها لا تأتي على نمط واحد دائماً، بل تتنوع من حكاية إلى أخرى، وكثيراً ما توظف العجوز أو تُستخدم في كثير من الحكايات كوسيلة لتغطية مشكلة أو لدفع حركة الأحداث إلى الأمام، ولا تُطِل برأسها في الغالب إلا حينما تكون هناك مُشكلة أو مأزق تتعرض له إحدى شخصيات الحكاية. وقبل أن نستعرض أنماط شخصية العجوز أود الإشارة إلى أن حكاية (العجوز والشيطان) هي الحكاية الوحيدة في أساطير الجهيمان التي يتم فيها تصوير العجوز صراحةً كنموذج للشر المطلق، وفيها يُخاطب الشيطان العجوز قائلاً: «إما أن تتركي لي البلد وإما أن أتركها لكِ»، ويتم الاتفاق بينهما على أن يتم اختلاق مشاكل وفتن من أحدهما ويتم حلها من قِبل الآخر، والذي يستطيع حلها هو الذي يبقى في المدينة، وفي النهاية تتغلب العجوز على الشيطان فيرحل من المدينة مذموماً مدحوراً! إضافة إلى هذه الحكاية توجد حكاية أخرى تحتل فيها العجوز دور البطولة، وهي حكاية (العجوز التي توفي زوجها)؛ وخلافاً لكثير من الحكايات تسعى العجوز في هذه الحكاية لاسترداد حق خاص بها (معاش زوجها)، مُستخدمة في ذلك سلاحها الأثير (الحيلة)، فتقوم بسلسلة من الحيل ضد زوجة السلطان وزوجة الوزير وبائع الأصباغ والحداد وبائع الملابس والحداد والأعرابي وصاحب الحمار حتى تنجح في مقابلة السلطان فيأمر بصرف راتب زوجها مضاعفاً. أما في بقية الحكايات فتستخدم العجوز كوسيلة لحل المشاكل أو للخلاص من المآزق، ففي حكاية (السلطان مع سارق ثور السلطان) يستعين بها السلطان للبحث عن ثوره المسروق، ويعطيها الأمير في حكاية (الملك المجوسي) حذاء حبيبته زينب (أو سندريلا) ويطلب منها البحث عنها، ويستعين بها الولد البار أيضاً في حكاية (الولد البار بأمه) في البحث عن أخته الخائنة، وتُساعد العجوز الزوجة في حكاية (الرجل المزواج) على اجتياز الامتحان الذي وضعه لها زوجها وتمكنها من المحافظة عليه. ويبرُز نموذج العجوز العارفة التي تكشف الأسرار الغامضة أو تعرف ما لا يعرفه الآخرون في عدد من الحكايات، كحكاية (الأميرات الراقصات والجندي المجهول) حيث تنجح في كشف سر تخرق أحذية الأميرات، وتكتشف في حكاية (احتب دنيدش والا بناتك) أن رجل «مي» رجل كلب، ولكن اكتشافها هذا لا يجني عليها إلا الشر، فيُقطع رأسها «كما يُقطع رأس الدجاجة»؛ وكذلك تعرف البنت الصغرى من العجوز -التي دعت عليها- بوجود شيء ثمين يُدعى «بليبل الصياح» وتطلب من والدها شراءه لها، وكذلك لا يستطيع راشد في حكاية (راشد مع أبو راسين) أن يتعرف على شخصية «أبو راسين» الذي عيرته به زوجته إلا من عجوز يعرفها. وفي حكايات أخرى نجد نموذج العجوز (الشريرة) التي تُسخِر مواهبها لتحقيق أهداف شخصية (المال في الغالب) أو تحقيق أهداف غير شريفة للآخرين (الانتقام أو إشباع الغرائز الجنسية)، ومثال ذلك حكاية (عجوز الجن المتصابية) التي يكون مصيرها الموت بقذفها في قاع بئر؛ وكذلك تستخدم العجوز في حكاية (العجوز الساحرة والفتى الجميل) السحر لتحقيق مآربها؛ وفي حكاية (الشاب الغريب) أيضاً نجدها تساعد الزوجة الخائنة على إخفاء أمر خيانتها عن زوجها، وتحتال في حكاية (بنت زارع الكمون) لتجمع فاطمة بنت زارع الكمون مع الشاب العابث مقابل مبلغ مالي، وكذلك تُستخدم العجوز في حكاية (الفتاة التي اغتصب عفافها) كوسيلة للانتقام. وبين الشر والخير نُقابل نموذج العجوز (المتلونة) التي تفعل الخير والشر معاً كما في حكاية (ولد العليمي)، إذ تساعده في البداية على إيجاد عمل يكسب منه رزقه، ثم تحتال لتزويج ابن الأمير من زوجته، ويكون مصيرها الموت على يد الأمير قطن بن قطن، إذ «يدق رأسها برأس الخادم ويُلقيهما على الأرض ميتين»، وفي حكاية (من حيل العجائز) أيضاً تُطالعنا صورة العجوز التي «تلعب على الحبلين» لكسب المال، ولكنها تُقتل بيدي الرجلين اللذين احتالت على زوجتيهما. ورغم أن معظم الحكايات في أساطير شعبية تُروى على لسان الجدة العجوز إلا أننا لا نجد نموذج العجوز الصالحة إلا في حكاية واحدة هي (التائبة التي لازمت الحرم)، وتقوم فيها العجوز بدور ثانوي هو مؤازرة المرأة التائبة والتخفيف عنها. وكما نلاحظ فشخصية العجوز لا تأخذ طابعاً واحداً، بل تختلف وتتنوع من حكاية إلى أخرى، ولعل ما ذكره الدكتور الدغيري عن شخصية العجوز وقابليتها للتشكل والتلون هو الذي يدفع الراوي لتفضيلها واستدعائها في كثير من الحكايات.