صوت السارد: في رواية " لوليتا " يتورط السيد همبرت في عشق فتاة لا يتجاوز عمرها الثالثة عشر، لكن الروائي فلاديمير نابوكوف عندما يسرد تفاصيل هذا العشق فإنه يختار لبطل الرواية صوتا صاخبا في سرد الحكاية . فنجد صوت همبرت مرة متباهياً، ومرة مبررا لما يفعله. وفي أحيان أخرى يحاول الإقناع بسلامة هذا العشق. وأحيانا يأتي صوته بصوت المتهم المتبجح بالإنكار. لكن كل هذه الفخامة في صوت همبرت تتلاشى عندما يكتشف أن لوليتا فضلت عجوزا آخر محتال. وهنا نابوكوف يورط القارئ في مسألة التعاطف. هل ينحاز للعجوز همبرت أم ينحاز لتلك الشيطانة الصغيرة لوليتا؟ وفي المقابل نجد أن الروائي الألماني (توماس مان) في رواية ( الموت في فينسيا ) يختار لبطله اشنباخ صوتا هادئا ، خجولا ، يتحدث عن بعد في سرد تفاصيل التوله بالصبي البولوني تادزيو. هذا الصوت الآثم لاشنباخ يتناسب مع معطيات شخصيته .فهو الروائي الخمسيني الغارق في فكرة الجمال. لذا توهم أن ذلك الجمال تجلى في الصبي تادزيو. ومابين صوت همبرت الجسور في رواية لوليتا وبين الصوت الخجول لاشنباخ في رواية الموت في فينسيا. يتجلى هذا السؤال المهم بأي صوت يسرد الروائي تفاصيل حكايته ؟ الخراب : في فلم Skammen نجد البطل الهادئ، الروتيني في عشقه لزوجته ولنمط حياته المعزولة الذي يخاف من رؤية الدم. لكن هذا الرجل بعد الحرب تحول إلى إنسان مختلف فأصبح شرسا. تحول الى قاتل والى رجل براغماتي متجاوزا للحالة الروتينية التي كان يعيشها قبل الحرب. هذا التغير التي تحدثه الحروب يقودنا إلى شخصية رشيد في رواية خالد حسيني. فشخصية رشيد الاسكافي كانت تمثل الاعتزاز والقوة والحرص على الالتزام بالتقاليد الأفغانية في التعامل مع المرأة. لكن رشيد بعد أن قامت الحرب في أفغانستان امتد الخراب إلى داخله. فنجده أصبح متساهلا مع زوجته بأن تعمل كمتسولة. وان يضع ابنته في ملجأ. وأن يرضى بالخديعة عندما يكتشف حقيقة زوجته الثانية. لكن الخراب الذي لا يأتي من بعد الحرب فهو يكون بملامح أخرى وعندما يحدث الخراب فأن ردود أفعال الناس تتباين وتأخذ عدة مواقف، فهناك من يساهم في الخراب، وهناك من يكافحه وهناك من يتأمله. وفي رواية القوس والفراشة للروائي المغربي محمد الأشعري والفائزة بجائزة البوكر لعام 2010 تتناثر أطياف الخراب في سرد الرواية. على مستوى الخراب المادي نجد نماذجه تتشكل في الجد الفرسيوي والمحامي احمد مجد وطبقة الأثرياء والفاسدين من رجالات الدولة. ونجد فاطمة وهنية وليلى وإبراهيم الخياطي هم من يحاولون مكافحة هذا الخراب. أما يوسف الفرسيوي بطل الرواية فهو من يتأمل هذا الخراب. لكن الخراب المادي ليس هو المهمين على عوالم النص فهناك الخراب الأيدلوجي. فنجد الابن ياسين يعتنق الفكر الظلامي وبعد ذلك عصام، وكذلك عبدة الشيطان حتى هنية تخطتفها حالة الدروشة . بل حتى ان اليساريين ما عادوا مؤمنين بانتمائهم الحزبي، فأصبحت الإيمانيات بالمعتقد الأيدلوجي ملتبسة. ولا يقف الأمر الى هذا الحد في الرواية بل يأتي الخراب العاطفي فالزوجة هنية تطلب الطلاق بحجة الرغبة في إنجاب طفل ثم تتزوج احمد مجد صديق يوسف. والجد الفرسيوي يتسبب في انتحار زوجته الألمانية، وفاطمة لم تشعر بجدوى الحب فهي وكما عبرت عن نفسها انها لم تعد تحب حتى نفسها. ويوسف البطل الرئيسي في الرواية يتخبط في مصائره العاطفية بين هنية وفاطمة وليلى. بل ان الخراب يعيد تزوير مفاهيم الأشياء فابراهيم الخياطي الرجل المثلي وبعد ان فقد عشيقه نجده يتزوج أرملته بحجة الوفاء والمساعدة لهذا العشيق والمفارقة ان تقبل الزوجة بهذه الصفقة، لحاجتها المادية وإكراما لمشاعر إبراهيم الخياطي المفجوع في فقد عشيقه. كذلك فالشباب الذين اختلطت عليهم مفاهيم الفن تغنوا وارتدوا اكسسوارت عبدة الشيطان وهم لم يكونوا يدركون خطورة غنائهم أو تمثلهم لحالة تلك الظاهرة. كذلك فالزوجة هنية ترى في الإبقاء على المزبلة والحفاظ عليها هو شاهد على جمال المدينة وفي المقابل كانت بناية الفراشة هي النجاح المادي المزور لتطور المدينة، انه الجمال البديل الذي تم تشييده بعد ممارسات متعددة من ألوان الفساد لكي يتم بناء تلك البناية.. تلك البناية التي حجبت العابرين من رؤية زرقة المحيط الأطلسي وكما يقول أحمد مجد مالك تلك البناية أنها حالة من الترف أن يحرص العابر على مشاهدة زرقة المحيط.. ويظل بناء القوس الذي يحلم في بناءة يوسف وهنية شاهد على الجمال المادي الذي لم يتحقق . وعندما يتوغل الخراب إلى هذا الحد في الأمكنة فأنه يتسرب إلى فنون وتراث المكان وهذا ما فعله الجد الفرسيوي مع تمثال باخوس ومع الفسيفساء وكذلك في الأغاني الفلكلورية وكيف إنها فقدت مضامينها التراثية وصارت حالة اعتيادية ، مهمتها إثارة الصخب في الأمكنة وإبهاج السياح . لكن الشخصية الوحيدة التي نجت من هذا الخراب هي شخصية "الغالية" أخت أحمد مجد كان تزهدها من علائق الدنيا هو سبب نجاتها . وظلت هي الشخصية الصافية في عطائها ونموذجها الإنساني . الشر الروائي : في رواية " أبنوس" لألبرتو باثكث فيكيروا، والتي تتحدث عن تجارة الرقيق، تتجلى عناصر الشر بوجود سيلمان الغراب وأمين الزنجي، وكلّ منهما يملك طاقة من الشر والوحشية. لكن سيلمان يتفوق على أمين الزنجي بدهائه ومكره وبحرصه الشديد على بضاعته، بينما أمين الزنجي - وهو يماثل سيلمان الغراب في الشر والوحشية والهمجية - هو الأهوج المغرور بقدرته الجسدية وأهم من ذلك أنه واقع تحت سطوة التشهي لناديا، المرأة المتميزة بثقافتها وشخصيتها وخريجة السوربون التي تتقن عدة لغات، والبطلة الأولمبية في العدو وذات المواقف والآراء المتعلقة بالقارة الإفريقية، كل هذا يجعل اختطافها أكثر من مجرد اختطاف امرأة سوداء. تصبح المسألة أكثر وجعا وأكثر إثارة أن تختطف امرأة بكل هذا الوهج والتميّز. إنه يغدو أسيراً لها، ويصبح هدفه الأكبر هو أن ينال من جسدها وليس من القيمة المالية التي سيدفعها المشتري لهذه الزنجية المميزة. لذا نرى سليمان الغراب يتخلى عن اشتهائه لأجل المال ويخاطب ناديا: كم يؤسفني أنني لا أستطيع اغتنامك هنا بالذات، لأن الشيخ سيقتلني إذا بلغه أنني استخدمت بضاعته. أما أمين الزنجي فمن اللحظة الأولى يشعر أن ناديا ملكه لأنه هو من اكتشفها وفي أول مرة تحرش بها كان رد سيلمان الغراب قوياً عليه: سأقتلك ! - صرخ محاولا اللحاق به- سأقطع ..إذا كررت المحاولة، هل تسمعني ، ...، ...قذر! كانت ناديا، بقدر ما تمثل لتلك العصابة جوهرة ثمينة، هي أيضاً محور الصراع الخفي بين سليمان وأمين، وقد ظلّت تؤجل قرارها بالفرار مع أمين لأنها تدري بأنه سيطيعها إذا ما وافقت أن تمنحه جسدها وهذا هو الأمر الصعب عليها. عندما تستوعب فداحة الشر في ذاتك تفهم شريكك الذي يماثلك في الشر، ولهذا كان سيلمان الغراب حذراً من أمين الزنجي ويتفهم الشر الذي فيه، لكنه كان يظن أن أقصى ما سيفعله أمين مع ناديا هو أن يضاجعها. هذا هو قلق سليمان الغراب من أمين الزنجي. لم يفكر سليمان أن افتتان أمين بناديا سيقوده إلى الهرب معها أو الهرب بها. لم يكن يتصور أن أمين سيفرّط في الدولارات التي سيجنيها من بيع ناديا، لذا ورغم معرفته بوحشية ودناءة أمين، وهو يعرف أيضا أنه يمتلك مثل تلك الصفات السيئة وأكثر، إلا أنه كان يعول على إغراء المال لأمين وليس إغراء الجسد، ولم يتصور أن يترقرق أمين إلى هذا الحد وأن يقع تحت سطوة شهوته فيتحول إلى شرير عاطفي ويخضع بكل صفاته السيئة لأجل ناديا. لكن أمين والرغبة لناديا تحوله من شرير إلى كائن رقيق ،نجده شرسا وصارما مع شخصية "مونغو"، الذي كان يلعب دور العاصي في القافلة. هذا الزنجي الانشانتي هو الوحيد من المختطفين الذي كان يعارض ويجهر بمعارضته مع سيلمان، وهو الوحيد الذي فعلها وهرب. قال لناديا في اللحظة الأخيرة : أنتِ أشانتي - لن أسمح لهؤلاء الخنازير بأن يجعلوا امرأة من الأشانتي عبدة. أمين لم يحقق لمونغو طموحه في الانفلات من القافلة. جاء بمونغو في كيس وعينيه الزجاجيتين الجاحظتين خارج مدارهما، تتأملان السماء للمرة الأخيرة بتكشيرة صارمة وباردة، وسأل المختطفين:- هل من أحد آخر يريد الهرب؟ إن صناعة الشر الروائي تحتاج إلى تبصّر الكاتب في نفسيات شخوصه بحيث يرسم الشر المقنن والملائم لمعطيات الشخصية، ويتجنب، في المقابل، حشد أقوال وصفات تقريرية تدين تلك الشخصية. ولكي يقوم عنصر الإقناع بدوره على الروائي أن يترك لأفعال الشخصية وأقوالها فرصة تقديم نفسها للقارىء دون سيطرته المرئية حتى يتأتى لها أن تصدم هذا القارئ وتجعله يتعاطى بجدية مع الشر الكامن في تلك الشخصيات.