يوسف الصايغ فنان يرسم بالكلمة والريشة والحركة يقولون نابغة حيث لم يكتب إلا في سن الأربعين ، لم يكن عجزا منه لكن الفنان الأصيل يتهيب المجازفة حيث يدقق حساباته ويعمل المبرد والمحك ليفحص ماهية عمله قبل عرضه ، وهذا ما كان ، ولكن الصايغ عندما جاءت ال (الكان) للتحول إلى ( أصبح ) امتدت مساحات الكينونة المبدعة لتتخطى الحواجر بسرعة مذهلة تمثلت في عطاءات متواليات في الشعر والسرد والمسرح والتشكيل حتى اصبح علما من اعلام الإبداع العربي يشار إليه في كل محفل ثقافي وفي المنارات الفكرية كفاعل في مسيرة الفن القرائي والمشاهد وحتى المسموع الذي يمتح من اخيلته المستمدة الإيماءات الممسرحة ، وسار في طريق الفن الذي وجد نفسه فيه محركا وفاعلا على الساحة العامة طولا وعرضا وفي كل اتجاه ، وقد شكل مدرسة تتمثل في الإجادة في اكثر من اتجاه يصب في بوتقة الإبداع ، ومع تغربه في المنافي القسرية والاختيارية كان متواصلا مع همه في شهوة الإصلاح المتنامية في ذاته عبر منتجه المتميز اللافت الذي يخصه دون سواه مشيرا اليه في كل خطوة أو حركة بدلالة واضحة لا تذهب إلا إليه هو حيث تشير أبداً إلى أن هنا يقف المبدع الرائع (يوسف الصايغ ) في شكله ومضمونه المتلازمين منذ اليفاعة حتى الرشد في خطوة البدء بالإعلان عن الحالة الأصيلة التي كانت تتحفز ولكن بأناة وصلت الى مرحلة النضج التام، مما كان مؤكدا على أن الأعمال بدأت مكتملة ، فضلت مكتملة ومضيفة ومتجاوزة حتى آخر فترة من حياته التي كانت معرضا لفنون ابداعية متاحة في الساحة العامة في متابعة مستخبرة ومستبرة لأعمال لها وقعها في النفوس المتابعة والتي تقدر العمل وتعطي صاحبه المكانة اللائقة به ، ومع هذا لم تتمكن من إيفائه حقه فكان اكبر من أن يبحث عمن يقدمه أو يمهد الطريق امام شهرته فقد اعتمد على العمل ليقدمه للناس وكان له ذلك ، وفي عصر الإعلام كان يبتعد عنه ويلوذ بالعمل الجاد الذي اصبح غريبا في خضم الاعمال التسطيحية التي تتلاطم في الكيان الثقافي بقي يقدم الفن الصافي والراقي ولم يلتفت الى الوسائل العارضة عبر الإعلام ، فاستحق التقدير والثناء ولكن لم يعط حقه الكامل في وقت تمدد في فعل الجحود، وذهب وبقي نتاجه نهبا للناشرين المتربصين ، وفي كتابه (الاعتراف الأخير لمالك ابن الريب - سيرة ذاتية- ) يباغتك العبق الفني من العبارة الأولى في الكتاب حيث تنضح الإنسانية التي تكمن في شخصه كفنان مرهف الإحساس رقيق المشاعر يعنى بإنسانية الإنسان ويقدرها حق التقدير ، فما بالك عندما يكون الحديث عن الوالدين ، فهو يشهق : ((يداه على اصابع الأرغن .. وصوته كان حانيا وشجيا وكان له نظارتان مؤطرتان بالذهب وساعة ذات سلسلة لم تتوقف إلا لحظة موته .. وكان أبي)) لوحة ملونة رسمت بشكل مبهر قدمها فنان قدير في اطار يبرز أبعادها تتمثل في مشاعر حول الأب ، تجيء الصورة الثانية عندما يعمل ريشته الخاصة في تصوير الأم أما هي فكانت خصلة من شعرها الأبيض قد التصقت بجبينها بسبب من عرق الاحتضار وحين سمعت صوت البكاء انحنيت عليها وتحسست جبينها فوجدته لا يزال دافئا ولكن خديها كانا باردين كالثلج ولسبب غامض تجاسرت فحاولت ان افتح عينها المغمضة بطرف اصبعي فبان البؤبؤ جامدا وزلاليا خفت ثم حزنت فقد ماتت أمي ايضا وعند ذلك سمعت صوتها يهمس في أذني: «ياملاكا في السرير مقمطا بالحرير يامهجتي وسروري نم بالهنا ياحبيبي» أية ريشة تستطيع أن تنقل صورة المشاعر بهذه الدقة سوى ريشة الصايغ يوسف الذي صاغ أجمل الاشعار والمسرحيات والروايات بروح الصدق الفني الذي كان إطاره العام المستمد من عمق ثقافته الصافية المنابع والمتعددة الجداول المنتقاة بحس الفنان المبدع حقاً .