هل خطر على بالك يوماً ما أن هناك توارد خواطر شعرت به؟ بمعنى أنك كنت تُفكّر في أمرٍ ما، وفي نفس الوقت كان شخص آخر قريبا منك أم بعيدا يفكّر في نفس الأمر؟ هل كنت تُريد أن تقول شيئاً وفجأة قبل أن تنطق بكلماتك قام شخص آخر بقول ما كنت تود أن تقوله؟ هناك ما يُدعى تداعي الأفكار، وقد كان أول من ذكر ذلك هو أفلاطون، في كتاب الفيدون «Phedon» حيث قالك: «ألا تعلم ماذا يُصيب العاشق إذا نظر إلى قيثارة معشوقه؟ إنه يعرف تلك القيثارة ويسترجع إلى نفسه صورة صاحبها»، إن رؤية الدار تُذكرني بمن كان مقيماً فيها، وقد أسمع شخصاً فأفكر في آخر له نبرات صوته ولهجته، وقد أمر بالطريق فأذكر الحاثة التي جرت فيه - وقد تتسلسل هذه الأمور تسلسلاً تلقائياً، من غير أن يكون للإرادة فيها أثر ؛ كالذي ينظر إلى الجامع الأموي في دمشق فيفكر في الوليد بن عبد الملك وخلفاء بني أمنة، ثم يفكر في الحجاج، والعراق، ودولة العباسيين، و هارون الرشيد، وشارلمان، وبيت المقدس، وصلاح الدين، و ضريحه في دمشق.. تُسمى هذه الظاهرة النفسية الآلية بتداعي الأفكار، وقد عرفوها بأنها: استحضار الأحوال النفسية بعضها بعضاً بصورة تلقائية، وتسمى الحالة المتقدمة بالمؤثرة والمأخرة بالمتأثرة. وتداعي الأفكار ظاهرة آلية، وتشمل جميع الأحوال النفسية والفكرية، سواءً كانت انفعالية، أو فاعلة. إذاً هذا هو التعريف العلمي لتداعي الأفكار، و يحدث هذا نتيجة ترابط منطقي بين الأمور أو الأشياء، كما ذكرنا في مثال من ينظر إلى المسجد الأموي في دمشق ويبدأ في تداعي الأفكار عنده دون إرادةٍ منه، بأن يُسلسل الأفكار مرتبطة برابط منطقي. ما بدأت به المقال هو ما يُعرف بالتداعي أو توارد الخواطر عن بعد، دون أن يوجد هناك رابط منطقي بين هذه الأشياء. ربما مرّ بعضنا بأمورٍ مثل تلك. على سبيل المثال، قد تتذكر صديقاً أو زميلاً من أيام الدراسة الابتدائية بعد أكثر من فراق دام ثلاثين عاماً. فجأة يخطر على بالك ذلك الصديق ولا تعرف ماذا حلّ به خلال هذه العقود الثلاثة، وبدون ترتيب تجد أن شخصاً يُحدّثك بأنه قابل هذا الصديق صباح اليوم وأنه سأل عنك ويرُيد أن يراك!. كيف حدث هذا بعد كل هذه السنين؟ خلال ثلاثة عقود من الانفصال لم يمر بخاطرك هذا الصديق واليوم عندما تذّكرته، جاء من يُخبرك بأنه قابله وسأل عنك ويُريد أن يراك وربما ترك رقم هاتفه مع الصديق المشترك لكي يتواصل معك..! قد تستغرب كثيراً هذه الظاهرة ولكنها موجودة، وليس لها تفسير منطقي أو علمي، ولكن سمعت ( ولا أدري عن صحة هذه المعلومات، بأن البحرية الأمريكية تستخدم هذه الظاهرة التي تُسمى «Telepathy» في نقل المعلومات بين الأساطيل وناقلات الطائرات، وربما يكون في ذلك مُبالغة، لكني قرأته في أحد الكتب ). على المستوى الشخصي، حدث لي مثل هذا الأمر قبل سنوات طويلة، عندما كنتُ طالباً للدراسات العليا في مدينة أدنبرة. في مرةٍ كنتُ في رحلة إلى جزيرة جيرسي، وكان عليّ أن أغيّر القطار في مدينة يورك، وعندما ركبت القطار، تذكرّتُ زميلاً لي في المدرسة المتوسطة (الإعدادية)، لا أعرف ما الذي جعله يخطر في ذاكرتي. كنّا افترقنا قبل أكثر من عشرين عاماً، ذهب هو إلى أمريكا ودرس هناك و تخرّج، ودرستُ أنا في كلية الطب في الرياض وتخرجت، وتزّوج كلٌ منّا، و لا أعرف أين رست به تصاريف الحياة. عندما وصلتُ منزلي في مدينة أدنبرة، هاتفني زميل وصديق مشترك لنا، و قال لي بأن فلان (الذي كنتُ أفكّر فيه قبل لحظات في القطار، ولم أره منذ أكثر من عشرين عاماً) حصل حادث سير لزوجته، وهي في المستشفى في وضعٍ حرج، و أراد الله أن تنجو من هذا الحادث ولكنها توفت بعد أكثر من عشرين عاماً من حادث السير الذي حدث لها. بعد تلك المكالمة، أستغربت أن يحدث هذا لي، وبدأت أقرأ عن موضوع التليباثي (توارد الخواطر عن بعد). عُقد في لندن مؤتمر عن البارسيكلوجي يتطرق للظواهر المشابهة لتوارد الخواطر و بقية الظواهر البارسيكولوجية. وللأسف رغم أني سجلت لحضور هذا المؤتمر إلا أني لم أستطع حضوره!. بعدها أخذت أقرأ عن هذه الظواهر، وأكتشفت بأن أشخاصا كثيرين حدث لهم حوادث مُشابهة. سيدة قالت لي بأنها كانت في مكتبها في العمل، وفجأة تذكّرت زميلة لها مضى سنوات طويلة تزيد على العشرين عاماً، وسألت إحدى زميلاتها عن هذه الزميلة الغائبة، فأخبرتها أنها منذ فترةٍ طويلة لم تسمع أي أخبارٍ عنها، وأنها تُريد أن تسأل إحدى قريباتها عنها. وكانت المصادفة أن الزميلة الغائبة جاءت تزور إحدى صديقاتها في مكان عمل هذه السيدة، فاستغربت السيدتان هذه المصادفة، وقالا لها بأنهما كانا يتحدثان عنها منذ وقتٍ قصير، فاستغربت الزميلة الغائبة هذه المصادفة، التي لم تكن تتوقعها. ومن هذه القصص الكثير التي سمعنا عنها، وربما أكثرنا سمع قصصاً مُشابهة لهذه القصص التي رويناها. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الأحداث مثل توارد الخواطر أو قراءة الخواطر عن بعد، هل هي ظواهر يمكن تفسيرها علمياً، وهل يمكن أن تحدث بوعي وإرادة؟. معظم الكتب والأبحاث التي وصلتُ إليها تُشير إلى أن مثل هذه الظواهر لا يمكن تفسيرها علمياً، وكذلك لا يمكن أن تحدث بوعي عندما يُريد الشخص أن يستخدمها. وهذا ما يجعلني أشك بأن البحرية الأمريكية تستخدم هذه الظاهرة في التواصل بين سفنها! أنواع تداعي الأفكار: لتداعي الأفكار نوعان، هما: 1- تداعي الأفكار الحادثة معاً، وهو الذي تجتمع فيه عدة أحوال نفسية فيتكون منها كل واحد ؛ إذا بعثت إحدى حالاته جذبت إليها غيرها من الاحوال المتممة لها، لأن قيمة هذه الأحوال الجزئية بما تؤلفه من مجموعات لا بما تتضمنه من حالات مفردة. مثال ذلك أنك لا تسمع اللفظ إلا لتُدرك معناه، لأن كلا منهما جزء متمم للآخر، ولا تتعلم القراءة إلا إذا جمعت الأصوات إلى أشكال الحروف، وأضفت -هذه الصور السمعية و البصرية إلى المعاني، فيتألف من ذلك كله مجموعات لا يمكن تبين أجزائها إلا بالتحليل. وكل إدراك فهو مجموع من الصور الذهنية، إلا أن العادة تجعلنا نظن المعنى المركب من هذه الأجزاء بسيطاً، وهو في الحق نسيج صور و افكار منضمة إلى الاحساس. وقد سُميت هذا التداعي بتداعي الأفكار الحادثة معاً. 2- تداعي الأفكار المتتالية، وهو استدعاء حالة نفسية حالة اخرى مختلفة عنها. ثم استدعاء هذه الحالة الثانية حالة ثالثة بحيث يتألف من هذا التتالي سلسلة متصلة الحلقات. إن مثل هذه الظواهر الباراسيكولوجية ما زالت موضع دراسة لأشخاص متخصصين في مثل هذه الأنواع من السلوكيات، وربما ظهر في المستقبل أمور أخرى تُغيّر تفكيرنا في هذه المواضيع.