تمثل إعلانات التعزية وإبراء الذمة إحدى الوسائل التي استغلها بعض ضعاف النفوس في الآونة الأخيرة لجمع الأموال من أهل الميت، بحجج واهية، وادعاءات كاذبة، متجاهلين الوضع النفسي الذي تعيشه أسرته، وبعضهم لم يكتف بالاتصال الهاتفي فقط، بل وصلت به الجرأة إلى الحضور والاندساس بين المعزين وفي نهاية يوم العزاء يكاشف اهل الميت بأنه يطلب المتوفى مبلغاً من المال، او ان المتوفى يقدم له الصدقة والزكاة وحان وقتها.. * يقول ثامر إبراهيم: شككنا في أحد المعزين الذي داوم الحضور إلينا على مدى ثلاثة أيام، دون أن نعرف اسمه، فظننا أنه من أصدقاء الوالد - رحمه الله - ، فمن يراه وقد أمسك بزمام المجلس لَيدرك أنه الصديق الروحي لوالدنا، إلا أننا تفاجأنا من طلبه بعد خروج المعزين، فقد طلب مبلغا ماليا مقداره عشرون ألف ريال، يقول إن والدنا استدانه منه قبل شهر من وفاته، ولم يدرك أن أبي لم يخرج من بيتنا منذ عامين بسبب المرض الذي عاناه. ويضيف محمد الجهني قائلا: حينما أعلنا في الصحف عن إبراء ذمة لوالدتنا لم نستطع إيقاف سيل المكالمات التي تطالب وتحث على أن نزكي عنها، واستطاع أحدهم أن يؤثر في أخي الذي أعطاه مبلغ خمسة آلاف ريال لبناء - كما يقول ذلك المتصل - مسجد في إحدى الدول الأفريقية باسم والدتنا، ويضيف: عرفنا من الجهات الأمنية بعد إبلاغنا عنه أن هذه طريقة جديدة للسرقة. ويتحدث فهد عبدالله: تعرضنا قبل عام تقريبا أثناء عزائنا بوالدتنا لعملية نصب ظريفة، فقد قدَّم أحد المعزين محاضرة عن الموت وفضل الصدقة عن الميت، وأنهى محاضرته بطلب الدعاء لوالدنا، فاستغرب الحضور وبينوا له أن المتوفى ليس الأب وإنما الأم، وحينما كشفوا أمره أقر بما قام به شرط ألا نخبر الشرطة، يقول: اعترف أنه لا يعرف أياً منا، وإنما قام بقراءة إعلان التعزية، وخلط بين إعلاننا وإعلان آخر المتوفى فيه رجل. هذه المواقف الغريبة وغيرها توجب على بقية الأسر أخذ الحيطة والحذر من هذا الاستغلال المقيت لأناس أصبح همهم البحث عن المادة بأية طريقة كانت، دون مراعاة لشعور الآخرين. يقول الدكتور عبدالله الأحمري أستاذ علم الاجتماع بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: جمع التبرعات في العزاء عادة ثقافية تجدها في آسيا الوسطى والقوقاز وربما في مجتمعات أخرى، لأنهم في تلك المجتمعات يرون أن الميت عندما يرحل فإنه يبقى على اتصال بأقربائه وأصدقائه، والتبرع نوع من توثيق الصلات بين الأحياء والأموات هذه رؤيتهم، ولكن ما أراه أن هناك تكافلا اجتماعيا قويا جدا في تلك المجتمعات، حيث إن أوضاع الناس قريبة من بعضهم البعض، فجميعهم يعاني من الفقر، والتبرع في تلك الحالات نوع من المساعدات، لأن الموت والدفن في تلك المجتمعات مكلف، أما عن الوضع في مجتمعنا فهو لا يخلو من حالتين: إما أن يكون هناك ضعف أو انقطاع في العلاقات الأسرية وتراكم ديون على الميت فيجمعها أناس ليسوا أقرباء ولكنهم أصدقاء من بعيد للميت، لمعرفتهم بالأحوال الاجتماعية و المادية للميت من أقربائه الحقيقيين، والحياة المادية التي يمر بها مجتمعنا أثرت بشكل كبير على العلاقات الاجتماعية بشكل سلبي، مما ضيق المساحات الاجتماعية للعلاقات وأضعفها، فأصبح لنا أصدقاء وأقرباء لا نعرفهم، وانتشرت ما يسميه البعض ظاهرة جمع التبرعات للميت، ولم تصل في نظري إلى حد أن تكون ظاهرة بل امتداد لبقايا القيم الطيبة التي مازالت في سلوكنا والذي لم يتأثر بالمدنية والحضارة، وإنما هو جانب إنساني لا يمكن أن نبحث في أعماقه، ولكن ما يراه المشاهد والمتابع أنه عمل خير وله جذور دينية، حيث إن الميت لا يرفع عمله وعليه دين، فرؤيتنا لا يجب أن تتعدى هذا الأمر، قد يكون هناك مخالفات وابتزاز ولكنه مازال في حدود ضيقة، نرى في صحفنا اليومية إعلانات إبراء الذمة وهذا دليل واضح على الضعف الشديد في العلاقات الأسرية من ناحية، وامتداد واتساع العلاقات الاجتماعية مع زملاء العمل أو الجيران أو الشركاء في المؤسسات والشركات أو حتى على مستوى العلاقات البسيطة مع الناس البسطاء كالعمال وغيرهم، هذه العلاقات قد تبنى في بدايتها على علاقات اجتماعية إنسانية فقط، ثم تتطور وتأخذ بُعداً أعمق من هذا وهو البعد المالي، فإذا كانت العلاقات الاجتماعية والإنسانية متينة، وهذه من السهل بناؤها في مجتمعنا، لأن البساطة مازالت رائجة بشكلها العفوي، فإنها تصل إلى أن تبنى عليها علاقات مادية قد يجد الشخص ما يريد في شخص غريب عنه ربما لا يجدها في قريب منه، فالإعلانات في ظاهرها أنها فعلا إبراء للذمة لأنه لا يمكن أن نصل إلى كل إنسان بنينا معه علاقة وخاصة في مجتمعنا إلا من خلال الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي، وهذه الوسيلة لابد أن يكون لها سلبيات من بعض الناس الذين يرون أنها وسيلة سهلة إلى كسب المال، ففي هذه الحالة لابد من التريث والتأكد من أن الشخص المتقدم هو الشخص الصحيح من خلال السؤال عن: (اسم المتوفى الكامل - صفاته السلوكية أو الخلقية - عمله - سكنه - أبناؤه - عمره - مشاكله الصحية - وغير ذلك..)، لأن من يتقدم بشكل مباشر للطلب لا أظنه صادق في طلبه، خاصة إذا كان هناك علاقة قوية ومتينة مع الميت، فإنه سيكون وفيا له، وربما أنه يسامحه من باب حصول الأجر، أما من يتقدم بشكل مباشر فلابد أن نحذر منهم ولابد أن يتوخى أهل الميت الحذر في التعامل معهم والحزم وطلب المستندات التي تثبت الدين أو نحوه.