ذات مرة، قضيت اسبوعاً كاملاً في منهاتن القلب النابض للاقتصاد الامريكي فرأيت العجب من حيث احترام الوقت وتقديس العمل الى ابعد حد. وتشتكي الحكومة اليابانية من ان اليابانيين يأخذون فكرة العمل بجدية مبالغ فيها وتبحث عن حلول للتخفيف من هوس العمل عند الفرد الياباني. ذات مرة، مررت الساعة العاشرة صباحا في احد ايام العمل مع طريق الدمام السريع قريبا من الفحص الدوري حيث المقاهي الشهيرة ورأيت العجب لدينا في مدى التفنن في «تقطيع» الوقت والاستهتار بالعمل. مؤخراً، ركزت حملة وزارة العمل في جانبها الاعلامي على حث الشباب ودفعهم للعمل واثبات جدارتهم واستعدادهم لشغل وظائف معينة (ومحددة) في سوق العمل العريض. كان التركيز منصباً على الوظائف الفنية والمهنية والتي قد لا يمثل هجرها مضمون مشكلة السعودة بقدر ما تتغول المشكلة في مفاهيم «وثقافة العمل» بشكل اكبر. في سياق الفهم الشمولي لمشكلة السعودة نقول انها ترتبط ببعض القيم المهمة والعقد المتأصلة في المجتمع خاصة قيم مثل حب العمل والاعتماد على الذات وعقد مثل «عقدة الكرسي الدوار» وعقدة الاجنبي وغير ذلك. يخطئ من يعتقد بأن (السعودة) مسؤولية خالصة على وزارة الداخلية او وزارة العمل ويخطئ من يعتقد كذلك ان «حملة» اعلامية مهما كانت ضخمة وجميلة ستعالج معوقات السعودة المتعلقة ب «ثقافة العمل» في المجتمع. انها مسؤولية عامة على اطراف عدة منها البيت والمدرسة والاعلام والشركات. فالبيت مسؤول عن تنشئة الإنسان الذي يحب العمل والانجاز ويحقق طموحاته بالكد والتعب وهذه مواصفات الموظف او العامل الذي تبحث عنه الشركات والمؤسسات الخاصة. كما ان هناك مسؤولية كبيرة على المدرسة التي يجب ان تركز في مناهجها وطرق تدريسها على قيم وسلوكيات هامة يبدو ان المجتمع لا يوليها ما تستحقه من التفاتة وعلى رأس هذه القيم حب العمل والاعتماد على النفس والبناء الذاتي للقدرات والتفكير الايجابي وغير ذلك. على سبيل المثال، ظاهرة الدروس الخصوصية التي يشجعها الآباء ويدفعون لها مبالغ ضخمة من اجل ان يفرحوا بشهادة مزخرفة توضع على الجدار وصاحبها في صف الانتظار، نقول ان هذه الدروس تعود الشاب على الاعتماد على الآخرين وتؤصل عدم الثقة في النفس. ان غرس قيم تقول ان تجاوز العقبات يكون دائماً بمساعدة «مصدر خارجي» أو «واسطة» ستنبت شجرا (مايل) ينتظر (اللقمة الجاهزة) ولا يسعى لقطفها. وهناك دور حيوي أيضاً لوسائل الإعلام المختلفة لتقوم بالتعبير عن أهمية هذه القيم وضرورتها لترقية الفرد وتطويره. من الظلم أن نطالب الشاب الذي تمتلئ مخيلته ب «كليبات» السح الدح امبوووو!! ان يكون على قدر أهل العزم أو أن يلعق الصبر لكي يحصل على التمر!! لا تحسبن المجد تمراً أنت اكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا بل إنه من الخطورة بمكان تحول نماذج الفيديو كليب مع التكرار المرير في وسائل الإعلام خاصة القنوات الفضائية إلى «قدوة» ليس طبعاً في العمل والكفاح ولكن في فكرة ان النجاح والثروة تأتي بهز الوسط وما تحته!! أو أن العمل لا يكتمل والطموح لا يتحقق إلا بوجود لوحة كتب عليها (ر ق ص 666)!! ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن ظاهرة الأرقام المميزة في الجوالات ولوحات السيارات تؤثر سلباً على ثقافة العمل وبعض القيم الاجتماعية المتعلقة بها.. بدون قصد، المرور وشركة الاتصالات و(آخرون) يساهمون في غرس قيم وعادات وسلوكيات تؤطر للغباء الاجتماعي على نطاق واسع وتخلق حالة مؤلمة ومعكوسة في ترتيب الأولويات والاختيارات.. لقد أضحى الرقم المميز أهم من المنتج والذي أنتجه وأهم من مفهوم الإنتاج والعمل.. من هنا طغت المناظر على المخابر والمظهر على الجوهر فصنعنا بحركات بسيطة «قولبة» لمفاهيم وقيم اجتماعية لا تتناسب البتة مع روح العصر المتخم بالتعقيد والتحدي.. هل نتوقع أن يبحث البعض عن وظيفة ذات رقم مميز بغض النظر عن مضمونها (ممكن!!). على الشركات والمؤسسات الوطنية مسؤولية خاصة ودور كبير في خلق القيم البناءة التي تساعد في تشكيل ثقافة عمل إيجابية وكذلك في نبذ بعض العقد الاجتماعية التي لم ينزل الله بها من سلطان ولكنها مستحكمة في عقليات المديرين ومسؤولي الموارد البشرية.. يجب على شركات القطاع الخاص أن تتبنى مشاريع السعودة التي تهدف لتأهيل وتدريب الشباب السعودي قبل العمل (مهارات ما قبل - كيفية البحث، عرض المهارات، تجاوز المقابلات.. الخ) وكذلك أخذ المبادرة في اعدادهم للعمل ومعالجة ظاهرة التسرب والهرب من العمل التي أصبحت «مشجبا» يبرر عدم قبولهم من الأساس. لابد ان يقترب القطاع الخاص من الشباب ليؤهلهم ويدربهم لكي يشغلوا الوظائف التي تناسب قدراتهم ولا ينتظر منهم ان يتدربوا وينضجوا من انفسهم ثم يتقدموا للوظائف (جاهزين!!). هذه الشركات تستطيع اذا ارادت ان تغير من قيم وعقليات واذواق الناس لتسويق منتجاتها وفي بعض الاحيان بحجة الوطنية وتشجيع المنتجات الوطنية فيكون لزاما عليها ومن مبدأ الوطنية ان يكون لها دور في تهيئة ثقافة العمل الملائمة والمشاركة الجادة في معالجة جذور المشكلة وليس فقط «التوظيف الصيفي» للتخلص من بعض اللوم والحصول على (فيز) اضافية!!. لابد أن تكون المسؤولية مشتركة على الجهات التي ذكرناها من اجل غرس هذه القيم (حب العمل والاعتماد على الذات) والحديث عنها. ولن يكون الامر في مجتمعنا صعباً لان الثقافة السائدة لدينا والمستمدة من الدين الاسلامي الحنيف هي ثقافة تحب العمل وتحث على بناء الذات وتكره الكسل وتنبذ الاعتماد على الآخرين. الانتباه لهذه القيم وغرسها في نفوس الاجيال الصاعدة سيساعد على ازالة الكثير من الشكوك والتعميمات الخاطئة التي يطلقها اولئك الذين لا يريدون دعم السعودة في القطاع الخاص. كما ان ارباب العمل لن يجدوا تلك التوهمات والشكوك التي تحد من السعودة او تحبط الرغبة في توظيف العمالة الوطنية من شاكلة الاعذار المتكررة مثل عدم قدرة او جاهزية او جدية الشباب او تكرار تسيبهم وهروبهم من (ورش) الانتاج الخ. ولنا وقفة مع العقد الاجتماعية في مقام قريب.