إضافة إلى الثقل العسكري الأميركي، تبدو القوات العسكرية العراقية ذات صلة بمستقبل المقاربة الأميركية المرتبط بالعراق، وأمن الخليج عامة. فأية وجهة يا ترى ستوليها هذه القوات؟. وأية عقيدة عسكرية سوف تعتمدها؟. وما هو حجم ونوع السلاح الذي سيخصص لها؟. قد تبدو حيثيات هذا الأمر قضية عراقية ذات طابع سيادي. وهذا صحيح. إلا أن الصحيح أيضاً هو أنها قضية أميركية في الوقت نفسه، بفعل الأمر الواقع، تماماً بقدر كونها هاجساً إقليمياً. يمتلك العراق في الوقت الراهن أكثر من ربع مليون عسكري في تشكيلات ومؤسسات الجيش، وضعف هذا العدد من منتسبي وزارة الداخلية، من الشرطة وقوات المغاوير. يُضاف إليهم مئات الآلاف من المسلحين الآخرين، في قوات الحماية والقوات شبه النظامية، ليصل العدد الإجمالي للقوة المسلحة العراقية إلى أكثر من مليون مسلّح تابع لمؤسسات الدولة. وهذه إحدى أعلى نسب العسكرة عالمياً، قياساً بعدد السكان. وثمة أصوات في العراق تدعو اليوم لمزيد من التجنيد، تحت مسميات رسمية وشبه رسمية. وطالب نواب عراقيون بالرجوع إلى نظام الخدمة العسكرية الإلزامية. وشهد البرلمان، في الأشهر الأخيرة، مداولات بهذا الشأن، لم تسفر عن نتائج محددة. وذلك بسبب معارضة أبدتها بعض الأطراف، على خلفية هواجس وحسابات مختلفة. على صعيد برامج تسليح القوات العراقية، اعتمدت وزارة الدفاع في بغداد خطة من ثلاث مراحل، تمتد بين العام 2008 والعام 2020. وقالت الوزارة إن بعض الأسلحة المتعاقد عليها قد وصلت بالفعل، وهناك عقود جارية مع كل من الولاياتالمتحدة وصربيا ورومانيا، ودول أخرى. ويتفاوض العراق حالياً مع فرنسا على شراء ثلاثين مروحية، لمهام الاستطلاع والإنقاذ. وهناك حديث عن إمكانية تزويد الجيش العراقي بمقاتلات فرنسية مستخدمة. وقد بحثت صفقة المروحيات في أيار مايو الماضي، خلال زيارة وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير إلى بغداد. ويسعى العراق، حسب صحيفة "وول ستريت جورنال"، الصادرة في الخامس من أيلول سبتمبر الماضي، إلى شراء 36 طائرة من طراز "إف – 16" ، التي تبلغ قيمة الواحدة منها نحو مائة مليون دولار، مع تسهيلات التدريب على القيادة والصيانة. كذلك، سوف يشتري العراق ست طائرات نقل من شركة "لوكهيد مارتن"، ومعدات ذات صلة، منها 24 محركاً من "رولز رويس"، بقيمة إجمالية تصل إلى مليار وخمسمائة مليون دولار. وكانت القوة الجوية العراقية تتألف قبل العام 1990 من 513 طائرة مقاتلة، و584 مروحية عسكرية. وحسب بعض المصادر الأميركية، فإن العراق سوف يتسلم أولى مقاتلات "إف – 16" في العام 2015. وعلى صعيد آخر، تترقب القوات البحرية العراقية وصول أول سفينة دوريات، من أصل أربع سفن زنة 450 طناً، إيطالية الصنع، وذلك بحلول تشرين الثاني نوفمبر القادم. بيد أن البعد الأكثر مركزية في مشاريع التسليح العراقي هو ذلك المرتبط بتجهيز القوات البرية، لجعلها ركيزة القوة العسكرية للعراق، على نحو يقرب مؤسسة الجيش من خيارات العقد الثامن من القرن العشرين. وفي الثالث عشر من كانون الثاني يناير الماضي، أصدرت وزارة الدفاع العراقية بياناً رسمياً، نفت فيه تعاقدها على شراء ألفي دبابة قتال رئيسية من طراز "تي 72"، معتبرة التقارير المتداولة بهذا الشأن عارية عن الصحة. وكانت تقارير دولية قد أفادت بأن العراق يعتزم شراء دبابات "تي 72"، بقيمة إجمالية تبلغ ستة مليارات دولار، على أن تشكل القوة الضاربة للجيش العراقي الجديد. وحسب التقارير التي تم تداولها عالمياً، سوف يتم شراء الدبابات المذكورة من كل من بولندا والتشيك وسلوفاكيا وأوكرانيا، وهي دول تسعى أساساً للتخلص من السلاح السوفياتي، وإعادة بناء جيوشها وفقاً لمعايير حلف شمال الأطلسي (الناتو). وربما وجدت ضالتها في الطلبات العراقية. ووفقاً لهذه التقارير، فإن الخطة العراقية تقضي بتحديث دبابات " تي – 72" في مصانع تابعة لشركة (Defense Solution) الأميركية، قبل تسليمها للجيش العراقي، حيث سيتم تزويدها بأجهزة للرؤية الليلية وأنظمة اتصال جديدة. وقد اشترت بغداد من المجر دفعة تجريبية تتألف من 77 دبابة " تي-72" ، وجرى تحديثها في الولاياتالمتحدة. وعادة ما تنفي الدول التقارير المتعلقة بصفقات السلاح، إذا تم تسريبها في وقت لم تقم هي بتحديده، وذلك لاعتبارات داخلية وخارجية في الغالب. ولكن حتى في حال سلمنا بعدم دقة التقارير الخاصة بهذه الدبابات، فالثابت في الأمر هو أن العراق يتجه اليوم لتعظيم قواته البرية، على نحو بات يثير كثيراً من التساؤلات والهواجس في عموم دول المنطقة. فوفقاً لمجلة (Defense News)، تعتزم بغداد، في السنوات القليلة القادمة، شراء نحو أربعة آلاف قطعة من المدرعات، بما فيها دبابات قتال أميركية وسوفياتية الصنع. ويُراد للعراق أن يتفوق بذلك على إيران وسائر دول الخليج، ويغدو قوة برية ضاربة في المنطقة، على نحو يفوق ما كان عليه الحال إبان حكم الرئيس صدام حسين. وذلك بلحاظ نوعية السلاح الذي يخطط العراقيون لاقتنائه، معطوفاً على حجمه المتوقع. وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد وافقت، في تموز يوليو الماضي، على صفقات تسلّح للعراق، بلغت قيمتها نحو عشرة مليارات وسبعمائة مليون دولار، وتضمنت ما قيمته ملياران ومائة وستون مليون دولار لشراء دبابات "أبرامز" ( M1A1 Abrams )، التي تصنعها شركة جنرال دايناميكس. وتحديداً، سوف يشتري العراق 140 دبابة من هذا الطراز، و400 مركبة مجنزرة، من عربات المشاة القتالية الحديثة "سترايكر". وقد أكد هذه المعلومات الجنرال فرانك هيلميك، المسؤول عن تدريب قوات الأمن والجيش في العراق، وذلك في حديث نشرته له صحيفة "واشنطن تايمز"، الصادرة في الحادي عشر من شباط فبراير الماضي. وقال هيلميك إن هذه الدبابات لن تكون جاهزة قبل العام 2011. ورأى أن صفقات الأسلحة المذكورة سوف تتطلب بقاء القوات الأميركية في العراق لفترة أطول من المتوقع، لأجل صيانة هذه الأسلحة وتدريب القوات العراقية على استخدامها. وكانت وكالة التعاون الأمني والدفاعي الأميركية قد أفادت، في الحادي والثلاثين من تموز يوليو الماضي، بأن صفقة الدبابات المقترحة تشمل، في الوقت نفسه، معدات من إنتاج شركتي "هانيويل انترناشونال" و"جنرال موتورز". وتكلف دبابة "ابرامس" نحو عشرة ملايين دولار، في حين تصل تكلفة دبابة " تي-72" المحدثة نحو ثلاثة ملايين دولار. أما سعر الدبابة الروسية الجديدة فيبلغ ثلاثة ملايين وستمائة ألف دولار. وتشمل الخطط المعلنة أيضاً تزويد العراق بعربات مدرعة خفيفة، ومعدات لازمة لها، بقيمة إجمالية تصل ثلاثة مليارات دولار. وعربات أمن مصفحة، بقيمة 206 ملايين دولار. وكان عدد دبابات القتال الرئيسية لدى الجيش العراقي، في العام 1990، يصل إلى 5100 دبابة, إضافة إلى 2300 قطعة من مركبات المشاة المدرعة، و6800 من مركبات القتال. وكانت قوات الحرس الجمهوري تتشكل لوحدها من ست فرق: ثلاث مدرعة وأخرى ميكانيكية وفرقتا مشاة. وقُدر عدد دباباتها بأكثر من ألف دبابة قتال رئيسة. وفي المقابل، تمتلك إيران 1613 دبابة قتال رئيسية، و610 عربات مشاة، و640 مركبة مشاة مدرعة. والسؤال هو: ما الذي يستهدفه عراق اليوم من اقتناء آلاف المدرعات ودبابات القتال؟. وهل يُراد له مجدداً أن يصبح قوة موازنة لإيران وسائر دول الخليج؟.وإذا كان الأمر كذلك، فهل القوة البرية المتضخمة هي من سيخلق هذا التوازن؟. وقبل ذلك، هل تم تحديد جيران العراق باعتبارهم مصدر الخطر المحتمل على أمنه القومي؟. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا الاتجاه إلى تعظيم القوات البرية بدل السير نحو إعادة بناء حقيقي للقوة الجوية العراقية، على سبيل المثال؟. وهل يشير إعطاء هذه القوة دوراً ثانوياً إلى أن العراق الجديد لا يتوقع خطراً إسرائيلياً؟. ثم لماذا لا يدور الحديث في العراق عن تشييد نظام دفاع جوي فاعل وحديث؟. لقد عاد هاجس التوازن الإستراتيجي في المنطقة ليسيطر على القائمين على بناء الجيش العراقي، لكن المعضلة لا تكمن هذه المرة في الالتصاق بهذا الهاجس وحسب، بل كذلك في سوء تشخيصه، أو لنقل خطأ الحسابات المرتبطة به. إذ أن خليج العام 2009 ليس هو خليج الثمانينيات، أو العام 1990. إن التوازن المرتبط بمبدأ التعادل الحسابي في الدبابات والمدرعات قد ولى وانتفى على الصعيد الإقليمي الخليجي. وفضلاً عن ذلك كله، فإن حسابات عراق الأمس لتوازنات القوة كانت تستند إلى قدرات برية كبيرة، مدعومة بذراع صاروخي وسلاح جو، أفاد من مخزونات الشرق والغرب على حد سواء، وحيث مثلت فرنسا حينها هذا الغرب. إن دول الخليج، وتحديداً دول مجلس التعاون الخليجي، لا بد أن تطرح سؤالاً على الجميع حول مدى صوابية هذا المنحى في حسابات العراق الجديد، وما الذي ينتظر أمنها الوطني والإقليمي بعد عشرين عاماً، إن عادت مقاربة بغداد الدفاعية إلى وهم التوازنات الإقليمية، الذي لم يفرز سوى حربين مدمرتين. إن العراق يواجه خطر الإرهاب الأعمى، الذي يستهدف، على نحو يومي، كل مقومات التطوّر والحياة فيه. وهذا أمر واضح للعيان. ولا بد أن يحقق العراق يوماً استقراره الأمني، الذي يستحيل من دونه إنجاز وعد التنمية الاقتصادية والاجتماعية. بيد أن القضاء على آفة الإرهاب لا يتم عبر طوابير طويلة من الدبابات والآليات المدرعة، بل عبر بناء قوة استطلاع جوي وبري متقدمة. ولا أخال المستشارين العسكريين في بغداد في غفلة عن هذه الحقيقة. إن سياسة العراق الدفاعية لا بد أن تأخذ في حساباتها طبيعة الهواجس السائدة في المنطقة. وعلى الجميع تجنب دفع الخليج إلى شكل جديد من سباق التسلّح، من شأنه أن يفاقم حالة غياب الاستقرار الإقليمي، التي طال أمدها.