الحمدُ للهِ، وبعد: لا أظنُّ أحداً يعرف قيمة وثائق بلدٍ ما، أكثرَ مِن عارفي ذلك البلد، وحسبُها أهميةً عندهم، وجه تعلُّقِها بهم، ونقطة اشتراكهم. بل إِنَّ علوَّ قيمتها عندهم، مما يزيد قيمتَها عند غيرهم، والعكس بالعكس. ولهذا إذا وجدنا جهاتنا الحكوميَّة كلَّها، المعنيَّةَ بجمع الوثائق المحليَّة، وحفظها وتسجيلها، وإتاحتها للباحثين والدَّارسين، لا تُبالي كثيراً بها، بل هي مِن أزهد النَّاس فيها، وأقلِّهم تقييماً لقيمتها، ومعرفةً رُبَّما بأهمِّيَّتها، إذا عُرِضَتْ للبيع عليها، أصبحنا حائرِينَ بين أمرَيْنِ مُرَّيْنِ: - إِمَّا أَنَّ وثائقنا المحليَّة لا تُساوي شيئاً. - وإِمَّا أَنَّ القائمين على تلك الجهات لا يعرفون قيمتَها. ويزيد الأمرَ حيرةً، أَنَّ أولئك المُقَيِّمين والقائمين، لا يملُّون ولا يكلُّون مِن رحلاتهم المكوكيَّة لجوب أصقاع الدُّنيا، للتَّنقيب في أراشيف الدُّول، وخزائنِها التُّراثيَّة، عن ورقةٍ أو وُريقةٍ لها صلةٌ بتاريخنا المحلي بكُلِّ لُغَةٍ، ولو كانتْ طلسما مَلَكَهُ في يومٍ مِن الدَّهر نجديٌّ لا يُعرف! ويدفعون في تصويرها أضعاف ما يعرضونه لشراء أُصول مثيلاتها المعروضة عليهم! وحتى لا يبعد ذهنُ القارئ الكريم في الأرقام ذوات الخانات والعَدَد، ويظنُّهم يعرضون لشرائها المئات وهي عندي تستحقُّ الآلاف مثلاً، فإنّي أقول له: إِنَّ المبالغ المعروضة مِن قِبَلِهم لشرائها، عشرةُ ريالات للوثيقة، وإِنْ كانتْ مُتعلِّقةً بشخصيةٍ كبيرة! فَإِنْ زاد جود مُقيِّمها بَلَغَ بالوثيقة خمسين ريالاً على مضض، وهو لغيظهِ مِن الكاظمين! مبالغُ أقلُّ مِن قيمة الأوراق الفارغة الفاخرة التي يكتبون عليها توافهَ أفكارِهم، ومُسوَّدات قراراتهم. مما جعل كثيراً مِن الوثائق المحليَّة تخرجُ مِن البلاد لدُولٍ خليجيَّةٍ مجاورة، أو دُولٍ غربيَّة! لينطلقَ هؤلاء المُقيِّمون ومَنْ وراءهم بعد سنواتٍ إليها، مُنقِّبِينَ عنها هناك، دافعين في تكاليف تصويرها وتوابعه عشراتِ أضعاف ما اشتُرِيَتْ به لو وجدتْ مُنصفاً، ورُبَّما لزم لتصويرِها أو حتَّى الاطِّلاع عليها توقيعُ اتفاقيَّةٍ ثقافيَّةٍ مُشتركةٍ بيننا وبينهم. إِنَّ وجود هؤلاء المُقيِّمين في هذه الجهات، لهو نذيرُ شؤمٍ على البلاد، فبلادنا الثَّريَّة، وميزانياتُ هذه الجهات الحكوميَّة المعنية السَّخيَّة، لا تُبذل في شراء كثيرٍ مِنْ هذه الوثائق المهاجرة، التي أصبحتُ أراها تُهاجِرُ اليوم بالمئات، بعد أَنْ كنتُ أراها منذ سنواتٍ تُهاجر بالعشرات. وإخراجُ مالكيها لها خارجَ البلاد إِنْ لم يجدوا مُشترياً، مِن السُّهولة واليُسْر بمكان، ولا يُكلِّفُ شيئاً، ورُبَّما لم يُكلِّفْ سوى أجرة طَرْدٍ بريدي فقط، والملومُ الحقيقي هو مَنْ كانتْ هذه الوثائق بين يدَيْهِ، وفرَّط فيها! إِنَّ انهزاميَّة الثقافة والفِكْر، الحاملةَ على بَخْسِ قيمة الوثائق المحليَّة الُمهِمَّة في الدَّاخل، ونفخِ الأهمِّيَّة في غَيرِ المُهِمِّ أحياناً إذا كان في الخارج: يجب أَنْ تنتهي. إِنَّ مُجرَّد خروج هذه الوثائق لهذه الأسباب، دليلٌ على حقيقة تقييمنا لوثائقِنا وقيمتِها عندنا، وسببٌ في بيع هذه الوثائق بمبالغَ تافهةٍ لجهاتٍ خارجيَّةٍ مختلفةٍ، لا لشيءٍ إِلَّا لأَنَّ تلك المبالغ أكثرُ مما عرضتْهُ جهاتُنا الحكوميَّةُ الرَّاغبةُ في الشراء، غير الجهات الحكوميَّة المعتذرة عنه أصلاً. وأبلغُ عذر سمعتُه مِن بعض هؤلاء المُقيِّمين في تبرير هذه المبالغ التَّافهة: أَنَّ البائع ليستْ لَهُ صلةٌ بالوثائقِ المُقدَّمة، فهي مثلاً مُرسلةٌ مِن فلان إلى فلان، وليس البائعُ فلاناً الأوَّل، ولا هو الثَّاني! أو أَنَّها في الأصل وثائقُ حكوميَّة، وأَنَّ المبلغ الُمعطى للبائع ليس قيمتَها، وإِنَّما هو قيمة جُهدِه في حفظِها أو جلبِها! وهذِه الُحجَجُ الغبيَّة، لا تستحقُّ الاعتداد ولا الرَّدّ، لولا أَنَّ أصحابَها موجودون حتَّى السَّاعة، ومازالوا مُحتجِّين بها. فإِنْ كانتِ الوثائقُ المعروضة ليستْ لها صلةٌ بالبائع، إِذْ أَنَّهُ ليس الأوَّل ولا هو الثَّاني، فما صلتُهم هم! وإِنْ كان أصلُها الحكوميُّ، مُوجباً لردِّها إليهم، فلماذا لم يُطالِبُوا بوثائقِنا المحليَّة في الخارج! إِنَّ هذه الأمورَ قد تسبَّبتْ في إحجام النَّاس عن عرضِ ما لديهم لهذه الجهات، وتعمُّد إخفائه، وأصبحتْ هذه الجهاتُ خاليةً مِن باعة الوثائق، إِلَّا غرٌّ لم تكنْ له في الباب معهم سابقُ تجربة. وأصبح باعةُ الوثائق إِنْ عرضوها في الدَّاخل، عرضوها على القطاعات الثَّقافيَّة الخاصَّة أو الأفراد، فَإِنْ لم يَتِمَّ شراؤها لعدم قُدرةٍ، أو رغبةٍ: خرجتْ خارج البلاد. ولو نظرنا في حجم الوثائق المعروضة على القطاعات الخاصَّةِ عَدَداً، بغَضِّ النَّظرِ عن شرائِها وعدمه، مع حجم الوثائق المعروضةِ للبيع على تلك الجهات الحكوميَّة: لظهرَ الفَرْق. وإنّي أقول الآن - مع علمي بأَنَّ كلامي مُتأخِّرٌ، غَيرَ أَنَّ تدارك الأمر ممكنٌ - إِنِ استمرَّ الأمر على هذا الوجه، وبقي هذا الخلل، لن نفطن إِلَّا وعشرات آلاف وثائقِنا في أيدي غيرِنا، ورُبَّما كان مِن ضمنِها العشرات أو المئات مما يتمنَّى أصحابُ الشَّأنِ لو اشتروها بوزنِ صاحبها ذهباً ولم تخرج! كما أَنَّ خوفَ النَّاسِ أو تخويفَهم أو إحراجَهم، أو مصادرةَ ما لديهم بمُقابلٍ غَيرِ مُرْضٍ أحياناً، أو بلا مُقابلٍ أحياناً، هو مما يُحجِمُ النَّاس عن بَيعِ ما لديهم وتقديمه. والواجبُ البَذْلُ السَّخِيُّ في شرائِها، ورَصْدُ الدَّولة مبالغ كبيرة مُخصَّصة لشرائها، ومحاسبةُ كُلِّ جهة تعتذر عن الشِّراء أو تعرض له مبالغ تافهة ليستْ قيمتها، ليأتيَ كُلُّ مالك وثيقةٍ بها إليهم، برضا نَفْسٍ وتَطَلُّعٍ، خاصَّةً وأَنَّها مهما بلغتْ فأعدادُها محدودةٌ قليلةٌ، لو وجدتْ توجُّهاً جادّاً لاسْتُنْفِدَتْ في أشهر. ولو عَلِمَ المعنيُّ بأَنَّ هذه المبالغَ التي استكثرَها على شرائها، سيدفعُ أضعافَها لتصوير أُصولها مِن مالكها بعد رحيلِها، ورُبَّما لصَرْفِه عن استغلالها وإسكاته: لم يذخرْ عنها شيئاً، والله المُوفِّق،،،