وإضافة إلى ما يعتري متن حديث عكرمة من شذوذ، فإن سنده، هو الآخر، لا يسلم من ضعف. فآخر سلسلة السند هو محمد بن الفضل الملقب بعارم، قال فيه الحافظ بن حجر في تقريب التهذيب: «تغير في آخر عمره». وقال عنه ابن حبان: «اختلط في آخر عمره وتغير حتى لا يدري ما يحدث به، فوقع في حديثه المناكير الكثيرة، فيجب التنكب عن أحاديثه ولا يحتج بشيء منها». أما أول السلسلة فهو عكرمة مولى ابن عباس، وقد ذكر الإمام الذهبي في: (ميزان الاعتدال) أن حماد بن زيد ذكر أن شيخه أيوب السختياني، وهو راوي حديث الردة عن عكرمة، سُئل: أكنتم تتهمون عكرمة؟ ، قال: «أما أنا فلم أكن أتهمه». وهي إجابة متراخية من تلميذ عكرمة توحي بأنه، أي عكرمة، كان موضع اتهام من الناس!. ويصدق ذلك ما ذكره الذهبي في: (سير أعلام النبلاء)، من أن علي بن المديني قال عن عكرمة بأنه: «كان يرى رأي نجدة الحروري»، ونجدة هذا هو الذي تنسب إليه الحرورية من الخوارج. أما يحيى بن معين فقد أكد، وفقاً للذهبي أيضا، أن مالك بن أنس رحمه الله كان يرى أن عكرمة ممن ينتحل رأي الصفرية أتباع زياد بن الأصفر، وهم أحد فرق الخوارج المعروفة. ومما يدل على انتحال عكرمة لرأي الخوارج، ما رواه الذهبي أيضاً في السير من قول علي بن المديني عنه أنه وقف، أي عكرمة، على باب المسجد فقال: ما فيه إلا كافر. قال: وكان يرى رأي الإباضية. وما رواه أيضاً عن خالد بن أبي عمران أنه قال: دخل علينا عكرمة مولى ابن عباس بأفريقية وقت الموسم فقال: وددت أني بالموسم بيدي حربة أضرب بها يمينا وشمالا، وفي رواية: فأعترض بها من شهد الموسم. قال خالد: فمن يومئذٍ رفضه أهل أفريقية. كما روى الذهبي أيضاً أن سعيد بن المسيب قال لغلام له يُقال له برد: لا تكذب عليَّ كما يكذب عكرمة على ابن عباس. وذكر الشافعي أن مالكاً كان سيئ الرأي في عكرمة، وقال: لا أرى لأحد أن يقبل حديثه. أما الإمام محمد بن سعد، صاحب الطبقات، فقد قال عن عكرمة: «ليس يُحتج بحديثه ويتكلم فيه الناس». أما ابن الصلاح فقد قال في كتابه (علوم الحديث) : «احتج البخاري بجماعة سبق من غيره الجرح لهم كعكرمة مولى ابن عباس....». ولهذه الأسباب، لم يرو الإمام مسلم لعكرمة منفردا، بل روى له مقرونا بغيره. وإضافة إلى ضعف سند ومتن حديث عكرمة، فإن هناك نصوصا أخرى تذهب إلى عدم قتل المرتد. منها ما رواه الإمام ابن حزم في (المحلى)، من أن أبا موسى الأشعري بعث أنس بن مالك بفتح (تَستَر)، فسأله عمر، عن نفر من بكر بن وائل كانوا قد ارتدوا عن الإسلام، ولحقوا بالمشركين، بقوله: ما فعل النفر من بكر؟ . قال، أي أنس، : فأخذت في حديث آخر لأشغله عنهم. فقال: ما فعل النفر من بكر بن وائل؟ . قلت: يا أمير المؤمنين قوم ارتدوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلا القتل. فقال عمر: «لأن أكون أخذتهم سِلما أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس من صفراء وبيضاء». ومنها ما رواه ابن حزم أيضاً من أن أبا موسى الأشعري قتل جحينة الكذاب وأصحابه. قال أنس: فقدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما فعل جحينة وأصحابه؟ قال: فتغافلت عنه ثلاث مرات، فقلت: يا أمير المؤمنين، وهل كان سبيل إلا القتل؟ ، فقال عمر: «لو أُتيت بهم لعرضت عليهم الإسلام، فإن تابوا وإلا استودعتهم السجن». وأيضاً ما رواه من أن عمر ابن الخطاب أُخبِر عن رجل ارتد عن الإسلام فقُتِل، فقال عمر لمن أخبره الخبر: «ويحكم فهلا طينتهم عليه باباً وفتحتم له كوة فأطعمتموه كل يوم منها رغيفا وسقيتموه كوزاً من الماء ثلاثة أيام، ثم عرضتم عليه الإسلام في الثالثة فلعله يرجع، اللهم لم أحضر ولم آمر ولم أعلم». وإضافة إلى تلكم النصوص، فثمة حقيقة تاريخية تثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقِم حد الردة على أحد من المنافقين الذين كانوا يتلفظون بالألفاظ الكفرية في مناسبات عديدة. منها ما رواه السيوطي في كتابه: (لباب النقول في أسباب النزول) من أن الجلاس بن سويد ونفراً معه تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقالوا: لئن كان هذا الرجل صادقاً لنحن شر من الحمير. فرفع عمير بن سعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحلفوا: ما قلنا فأنزل الله تعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم). والشاهد هنا ما ذكره القرآن من أنهم كفروا بعد إسلامهم، ومع ذلك، فلم ينفذ فيهم النبي صلى الله عليه وسلم حد الردة. لكن مع تلك الروايات التي لا تذهب إلى قتل المرتد، ومع تهافت وضعف وهشاشة حديث عكرمة، ومع خلو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم من تنفيذ لحد الردة، فهناك حديث صحيح رواه الشيخان في صحيحيهما عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة». فما الذي يفرق مضمون هذا الحديث عن مضمون حديث عكرمة السابق ذكره؟ . الواقع أن ما يتميز به حديث ابن مسعود أنه قرن تَرْك الدين بمفارقة الجماعة الذي يرمز إلى الخروج على الدولة ومحاربتها، وهو ما يُرمز له بالفكر السياسي الحديث ب«خيانة الوطن». وهو المعنى الذي تؤكده رواية أبي داوود لهذا الحديث، التي جاءت بلفظ: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث، رجل زنى بعد إحصان فإنه يرجم، ورجل خرج محاربا لله ورسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض، أو يقتل نفسا فيقتل بها». والشاهد هنا قوله: ورجل خرج محارباً لله ورسوله. ومفارقة الجماعة، بوصفها خروجا على الدولة، هي ما حمل أبا بكر ، بوصفه رئيساً للدولة آنذاك، على قتال المرتدين، الذين لم يكونوا، كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد عابد الجابري في تفكيكه لمفهوم الردة، مجرد أشخاص غيروا عقيدتهم بلا دوافع سياسية، بل كانوا أناساً أعلنوا التمرد على الدولة، فامتنعوا عن دفع الزكاة بحجة أنها كانت التزاما منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وحده دون غيره، بل لقد ذهبوا، والكلام لا يزال للدكتور الجابري، إلى أبعد من ذلك، إذا نظموا أنفسهم للانقضاض عليها.ف«المرتد» بهذا المعنى هو من خرج على الدولة، إسلامية أو غير إسلامية، متحارباً أو متآمراً أو جاسوساً للعدو ويستنتج الجابري من التفرقة بين الردة الفردية والردة الجماعية بوصفها خيانة للدولة والوطن، أمرين غاية في الأهمية هما: أولاً: أن حكم الفقه الإسلامي على «المرتد» بالقتل ليس حكماً ضد حرية الاعتقاد، بل ضد خيانة الأمة والوطن والدولة، وضد التواطؤ مع العدو أو التحول إلى لص أو عدو محارب. ثانياً: أن الوضع القانوني ل«المرتد» لا يتحدد في الإسلام بمرجعية حرية الاعتقاد، بل يتحدد بمرجعية ما نسميه اليوم ب«الخيانة للوطن»، بإشهار الحرب على المجتمع والدولة. مثلما أن من يتحدثون اليوم عن حقوق الإنسان، وفي مقدمتها حرية الاعتقاد، لا يُدخِلون في هذه الحرية حرية الخيانة للوطن والمجتمع والدين، ولا حرية قطع الطريق وسلب الناس حقوقهم، ولا حرية التواطؤ مع العدو. وإذن فالحرية شيء، والردة شيء آخر مختلف عنه تماما. ومع كل ما سقناه من نقد لمفهوم حد الردة، فإننا لا نقصد بذلك الترويج للتلاعب بالدين، أوالخروج منه متى ما شاء الإنسان، معاذ الله فليس إلى ذلك قَصَدْنا. بل إننا حاولنا أن نظهر، من خلال نقد حديث الردة، قدسية الحياة الإنسانية بما يباعد بها أن تكون محلاً للإزهاق اعتماداً على حديث آحاد يخالف صريح القرآن، هذا إذا كان الحديث صحيحا من حيث السند، ومعقولاً من حيث المتن. فكيف به إذا كان ضعيف السند، مشوبٌ متنه بشذوذ لا يرتفع؟.