بالإمكان اختزال الشرط الرابع، من شروط جاهزية التحول للعالم الأول، في ثلاث مفردات هي المسؤولية والشفافية والمساءلة. الأولى أتت ضمنا، أثناء الحديث عن الشرط الثاني، المتمثل في أهمية إيجاد الأجهزة والمؤسسات القادرة على توفير البنية المناسبة لذلك التحول والقادرة أيضا على إدارته. إن وجود مثل تلك المؤسسات الملتزمة بشروط ومتطلبات التحول، قادر على تحديد المسؤولية، سواء على مستوى المؤسسات ذاتها، أو داخلها فيما يتعلق بالأفراد العاملين. تحديد المسؤولية، من خلال تلك المؤسسات، شرط أساس لتوفير عنصرين هامين ومتطلبين أساسيين من متطلبات التحول وهما الشفافية والمساءلة. حينما تتحدد المسؤولية المؤسساتية والفردية، نستطيع الحديث عن هذين الشرطين المتلازمين، إذ بدون مؤسسات محددة الأدوار، واضحة المعالم، يصعب توفر الشفافية اللازمة، وبالتالي المساءلة والمتابعة والمراقبة. والعكس متى اتضحت تلك المسؤولية، حيث يصبح الحديث عن الشفافية والمساءلة ممكناً ومشروعاً. علينا أن نتفق، أن التحول للعالم الأول، يبقى ناقصاً وغير مكتمل، بل هو غير ممكن، ما لم تنتقل الشفافية والمساءلة كونهما مصطلحاً فكرياً ترفياً، إلى واقع ممارس وملموس على أرض الواقع، حيث هما ركيزة أساسية في بناء الدول. وقبل الاستشهاد بتجارب بعض الدول الحديثة، التي سجلت نجاحات باهرة في هذا المجال، مما أهلها للتحول والانتقال من عالم متخلف تنموياً إلى آخر متقدم، يحسن بنا أن نتذكر أن هذين الأمرين كانا حاضرين في تاريخنا الإسلامي، وبالذات في عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وفي عهد خلفائه الراشدين، وكذلك في فترات الازدهار الإسلامي في العصور الإسلامية اللاحقة، وما حديث قطع يد فاطمة رضي الله عنها، وما مواقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه الكثيرة في هذا المجال وقولته الشهيرة من أين لك هذا، وما ممارسات عمر بن عبدالعزيز رضوان الله عليه الملفته، إلا دلالة على تجذر هاذين العنصرين في ثقافتنا، بل ودلالة على تلازمهما و عصور التفوق للدولة الإسلامية. أما في عصرنا الحاضر، فان الحديث حول هذا الموضوع سيكون أكثر وضوحاً وفهماً عند الاستشهاد بإحدى التجارب المميزة في هذا المجال، وأقصد بذلك التجربة السنغافورية، وهي تجربة مكنت سنغافورة أن تحوز مراكز متقدمة ضمن التصنيفات الدولية، مما وضعها محط أنظار المتابعين والمهتمين. لم تحز سنغافورة درجات متقدمة في مستوى الشفافية والمساءلة صدفة، بل كان هناك مشروع لخلق هذين العنصرين اللازمين لتقدم الجمهورية وتطورها، وقد كان ذلك واضحاً منذ بدايات التأسيس. يقول السيد لي كوان يو في الصفحة 240 من كتابه الذي تمت الإشارة إليه سابقاً (كان لدينا إحساس عميق بضرورة تأسيس حكومة نظيفة وكفؤة، وحين قمنا بأداء اليمين في احتفال أقيم في قاعة مجلس المدينة في حزيران يونيو 1959م، لبسنا جميعاً قمصاناً خفيفة وسراويل بيضاء في إشارة رمزية إلى النقاء والطهارة والأمانة في سلوكنا الشخصي وحياتنا العامة) ويضيف في صفحة 242 (قررنا تركيز جهدنا على الحيتان الضخمة واللصوص الكبار، ووجهنا مكتب التحقيق تبعاً لأولوياتنا، كما شرعنا، بالنسبة للأسماك الصغيرة، بتبسيط الإجراءات وإلغاء الممارسات السرية عبر الإعلان عن خطط إرشادية واضحة وجلية (والأجمل من كل ذلك قوله في الصفحة 243) تجسد أهم تغيير فاعل أجريناه عام 1960م في مبدأ «من أين لك هذا؟» أي السماح للحاكم بالتعامل مع البيانات التي تثبت أن المتهم يعيش حياة تتجاوز حدود إمكانياته المادية، أو انه يملك عقاراً لا يسمح دخله بشرائه، كدليل دامغ على انه قبل أو تقاضى رشوة) وقد سعت سنغافورة إلى إيجاد قانون واضح يطبق على الجميع، حيث يقول السيد لي كوان يو (إن حقيقة كون النظام الذي وضعته يعرضني شخصياً للمساءلة والتحقيق في تصرفاتي تثبت انه فاعل وغير شخصي وانه لا يوجد احد فوق القانون) ولأنه لا احد فوق القانون، متى كان ذلك القانون واضحاً وشفافاً، ومتى كانت الحقوق معلنه وصريحة وإجراءات الحصول عليها واضحة ومكتوبة، حيث ذلك شرط من شروط التحول، فإن سنغافورة في طريقها كي تكون ضمن دول العالم المتقدم كما هو الشأن في كل من ماليزيا التي تطمح أن تكون كذلك بحلول عام 2020، والهند في عام2020 أيضا، وأخيرا الصين والتي تتوقع أن تكون كذلك في العام 2040م. ولا أظنني أستطيع أن أنهي هذا الحديث عن الشفافية والمساءلة كأحد شروط التحول الهامة والضرورية دون الإشارة إلى ما كتبه الزميل الأستاذ عبدالله القفاري في هذه الجريدة في تاريخ 1/1/1430 تحت عنوان القوي الأمين، حيث يقول (الموارد المالية لن تصنع مجتمعاً يعاود استلهام النهوض بدون مقومات النهوض. هناك من يتوسل المال لمعاودة كفاءة الإنجاز، لكن هذا المال بدون مقومات الرقابة القوية والحقيقية والنافذة ربما يتحول إلى وسيلة للإفساد والتعطيل.