في الزيارة الأخيرة التي قام بها الملك عبدالله للولايات المتحدةالأمريكية اجتمع حوله عشرات الطلاب المبتعثين وهم يرغبون في تقديم هدية رمزية له لشكره على كل الخدمات الجليلة التي قدمها لهم من ابتعاثهم في البداية وحتى رفع مكافأة الابتعاث بنسبة 50%، ولكن الملك قال لهم : «لا أريد هدية. أنتم هديتي». هذه الإجابة المختصرة تعكس ربما الهدف الكبير الذي يريده الملك ويعمل لأجله منذ سنوات طويلة، وهو صناعة مجتمع سعودي قائم على العلم والازدهار والتسامح والتعايش والاستقرار والتنور. في كل قرارات الملك وأحاديثه نلمس مثل هذه الأفكار التي تساعدنا لتكوين مجتمع مزدهر وحيوي. الملك عبدالله يجعل لنا الظروف متاحة تماما كمسؤولين أو كمواطنين لتشكيل مجتمع ووطن من هذا النوع، وهذه هي الهدية التي يريدها منا. ومن المخجل أن لا نقوم بذلك. ولكن لنتعرف أكثر على تفاصيل هدية الملك عبدالله التي يستحقها الملك منا. انه يريد مجتمعا قائما على المعرفة والعلم الحديث. يتضح ذلك في الموجة الكبيرة للابتعاث التي انطلقت في عهده ومازالت لحد الآن مستمرة حيث يدرس آلاف الطلاب السعوديين في أكثر الجامعات العالمية تطوراً وازدهاراً. الرائع في هذا الابتعاث أنه يشمل الجميع من مختلف المناطق والطبقات الاجتماعية الأمر الذي سينعكس أثره على المجتمع بأكمله وعلى جميع العائلات. الهدية التي يريدها الملك من هؤلاء الطلاب بعد أن وفر لهم كل الظروف الملائمة هي أن يتزودوا بالعلم والمعرفة ويعودوا إلى وطنهم ويساهموا في ازدهاره علميا، ودفعه للمنافسة مع بقية الدول التي يمثل التفوق العلمي الآن السبب الرئيسي لتفوقها. رغبة الملك في صنع مجتمع علمي تتضح أيضا في افتتاح الجامعات في الداخل وأهمها جامعة الملك عبدالله التي ستكون من أفضل الجامعات في العالم، وكذلك الدعم الكبير الذي قدم للجامعات القديمة. كما أن القرار الأخير بتعيين الأمير فيصل بن عبدالله المعروف بتنوره ورؤيته العلمية الحديثة كوزير للتربية والتعليم يأتي في سياق هذا الدعم لخلق أجيال علمية جديدة وليست أيديولوجية. في أحاديث الملك نتعرف دائماً على إيمانه ودعمه للدين المعتدل والمتسامح،وكراهيته للتعصب والتطرف. وعرف عنه دعوته الكبيرة لحوار الأديان التي لقيت أصداء عالمية. وكذلك نتعرف عليه من قراره الأخير بتوسيع هيئة كبار العلماء لتشمل عددا من المذاهب السنية الأمر الذي يعكس إيمانه بفكرة التعددية ويسر وسماحة الدين الإسلامي. وهو يردد في حواراته فكرة الإيمان بالقيم الدينية العميقة التي تهدف إلى الخير والعدل والتعاون والأخلاق الكريمة، ويتحدث باستمرار عن احترامه قيمة الإنسان مهما اختلف لونه أو دينه أو مكانه (تذكروا فقط خطابه الرائع في مؤتمر حوار الأديان في مدريد). من كل هذا القرارات والأحاديث والمؤتمرات نتعرف على سعي الملك لمجتمع قائم على التسامح ،والالتزام بالقيم الدينية العميقة، بعيداً عن التشدد والتعصب. هذا النوع من المجتمعات التي يريدها الملك هي المجتمعات التي تجاوزت خلافاتها الصغيرة وآمنت بقيمة الإنسان، هي التي تمثل الآن أقوى المجتمعات وأكثر تطوراً وتحضراً مادياً وأخلاقياً، وعلى العكس من ذلك فإن المجتمعات التي تطرفت وحاربت التسامح هي المجتمعات التي تراجعت وتلطخت بالدماء والكراهية. المرأة في عهد الملك عبدالله تكتسب حقوقها وتستعيد شيئاً فشيئاً أهميتها في المجتمع بعد أن عانت طويلا من التغييب بسبب التعاليم المتطرفة التي أبعدتها في الظل. مؤخراً تم تعيين السيدة نورة الفايز نائبة لوزير التعليم في حدث يعتبر الأول من نوعه في تاريخنا المحلي، وهذا التعيين يعبر عن التتويج الأكثر وضوحاً لمسيرة المرأة المزدهرة في عهده. هذا ما يعبر بوضوح عن رغبة الملك بمجتمع يحترم قيمة وأهمية المرأة ودورها الرئيسي في صنع مستقبل بلدنا. من أكثر الأفكار التي دعمها الملك هي فكرة حرية النقد. خطاب الملك الشهير أمام مجلس الشورى كان يعبر بوضوح عن هذه الفكرة المهمة التي تساعد المجتمعات في تطوير وتحديث نفسها بشكل مستمر. هذا ربما ما يلمسه الصحافيون والكتاب أكثر من غيرهم حيث ارتفعت معدلات الحرية النقدية في عهد الملك عبدالله بشكل رائع. ومن المثير أن هذه الحرية تتصاعد الأمر الذي يعني مزيدا من المكاشفة الصريحة القادرة على اكتشاف أخطاء الوزراء أو المسؤولين أو السياسيات المختلفة من أجل إصلاحها وتطويرها أو تغييرها. وقد شهدنا خلال الأعوام الماضية نقداً كبيراً لوزراء ومسؤولين بسبب الأخطاء التي ارتكبوها. ثقافة حرية النقد التي يدعمها الملك هي الثقافة الملائمة من أجل أن نصنع بلداً قادراً على التجديد. لو راقبنا مشاريع وأفكار وأحاديث الملك عبدالله، بالإضافة إلى قراراته التاريخية الأخيرة نعرف تماما ما هو حلم الملك عبدالله والهدية التي يريدها. انه يريد مجتمعا يتسم بالتسامح والمعرفة العلمية المتطورة ويبتعد عن التعصب والجهل، مجتمعا يحترم المرأة ويجعلها شريكة لا تابعة، مجتمعا حيويا يؤمن بالحرية والحوار لا القمع والتكميم ، مجتمعا يؤمن بقيمة العدالة لا الظلم والتكبر، مجتمعا تحترم فيه خصوصياتهم وكرامتهم ، مجتمعا يؤمن بالعقلانية لا بالأوهام. هذه هي الهدية التي يريدها منا الملك عبدالله منا كمسؤولين ومواطنين، وهي في واقع الأمر هدية نقدمها لأنفسنا ووطننا، ولكن هذا هو بالضبط ما يريده، فنحن هديته.