في هذا الزمن العربي الصعب تقل خيارات الشعوب ونخبها المثقفة في اتخاذ مواقف مستقلة ومتوازنة، فمن كل جهة يدفعها دافع ويهزها هاز، فمن يبحث عن الاستقلال والحرية والعدالة والديموقراطية يتهم بالخيانة والعمالة في سلسلة من التهم السياسية التي هي أشبه بفتاوى الموت التي يسكها إرهابيو الجماعات الإسلامية المتشددة لم يصنع قيس بن عاصم المنقري لعشيرته جزءاً مما صنعه الحريري للبنان ومع ذلك فعندما مات رثاه شاعر قبيلته ببيت من عيون الشعر العربي يقول فيه: وما كان قيس هلكه هلك واحد ولكنه بنيان قوم تهدمَّا لم يجل بخلدي وأنا أشاهد اللقطات الأولى لعملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري أكثر من هذا البيت، ولكأننا - والله - لم نثمل بعد من طعم المرارة والألم والتشرذم، حتى نغرغر بكأس اغتيال رفيق الحريري في حادثة حملت من الفجيعة طغيانها وجبروتها وهولها!. الإنسان يا سادتي هو الإنسان، لا يمكن أن ينسلخ من جلده، خصوصاً حينما لا تختطفه الأيديولوجيا ولعبة المصالح، يبكي للفواجع ويسعد بالمفرحات، وحين سقط الحريري مضرجا بدمائه الطاهرة على صعيد لبنان كان سقوطاً للإنسان في ذلك البلد الذي لم تلتئم جراح حربه الأهلية الراعفة بعد، وسيكون سقوطاً للإنسان أكثر إن لم يمض الجميع في قلب العالم العربي النابض هناك في لبنان إلى إحياء نهجه وسيرته وتوجهه الإنساني قبل السياسي. لقد كان الحريري ثرياً نعم، ولكن هناك أثرياء أكثر منه بكثير في شرق عالمنا العربي وغربه، لم يصنعوا لبلدانهم وأوطانهم عُشْر ما صنع، وقد كان الحريري سياسياً نعم، وهناك سياسيون كثر هنا وهناك، ولكنّ كثيرين منهم لم يقدموا مصالح أوطانهم على مصالحهم، ولم يضحوا بمكانتهم ونفوذهم لصالح بلدانهم ونمائها وتقدمها ووحدتها. حين حضر الإنسان في جنازة الحريري شعرت ببصيص أمل يتخلل لوحة سواد المستقبل التي رسمتها قتامة الحدث، لقد رأيت كما رأى كثيرون غيري كيف اجتمع اتباع الطوائف والديانات على قبر الحريري، كل يتلو صلواته ودعواته ويأمل لهذا الرجل العظيم بالخير والرحمة والغفران، لا تكاد تفارق عيني حركاتهم ودعواتهم وجؤارهم بالدعاء فوق ضريحه الذي أودع فيه عظيماً كما كان في الحياة عظيماً في ذات الوقت الذي يصلى عليه صلاة الغائب في الحرمين الشريفين ويالها من وحدة وطنية وعربية وإنسانية سعى إليها في حياته ولم يكن لها مفتاح سوى موته الكربلائي المهيب. لقد بذل الحريري في سبيل لبنان ووحدته وأمنه وسلامته الغالي والنفيس من جهده وعرقه وماله وصحته بدءاً من مساهمته الفاعلة في إنهاء الحرب الأهلية عبر التمهيد لمؤتمر الطائف مروراً بما قامت به مؤسسته الخيرية من أعمال خيرية حقاً كتدريس ما يزيد على الثلاثين ألف طالب لبناني في أعرق الجامعات الغربية وتحمل كافة المصاريف حتى بنى جيلاً جديداً من الشباب اللبناني المتعلم والمتنور في سلسلة من الأعمال المماثلة وصولاً إلى لحظة اغتياله الآثمة التي حاول من يقف وراءها كائناً من كان أن يهدم كل ما بناه الحريري، من إعمار لبنان إلى خلق نخب سياسية وثقافية واجتماعية جديدة، إلى نشر الحرية والديمقراطية في ربوع لبنان في عمل منهجي كانت أسوأ حلقاته وأشدها سواداً تلك الأخيرة التي أخذت معها صانع تلك الإنجازات في رمية غدر لم تخطئ هدفها. لقد كانت عملية اغتياله فاجعة لأنها جاءت في الوقت الخطأ له ولشعبه وللبلاد العربية قاطبة، فآخر ما كنا نحتاجه مع مآسينا المعاصرة هو حدث بهذا الحجم وهذه الرعونة والخطورة، حتى الزرقاوي الإرهابي الذي ملأ العراق دماء وأشلاء وسعى في بلاد الرافدين تدميراً وتفجيراً خرج يتبرأ لله ولخلقه من رعونة هذا الحدث وإجراميته وليحدثنا بلسان حاله ان الإرهاب السياسي ليس أقل خطراً من الإرهاب الديني، إن الزمان غير الزمان، وقد ذهبت الحرب اللبنانية بحلوها ومرها، وأحسب أن اللبنانيين قد تعلموا منها دروساً تحصنهم من معاودتها، فمن لدغته الأفعى مرة يحذر منها ألف مرة. وليس غريباً أن حدثاً بهذا الحجم والتأثير الإقليمي والدولي يستحوذ على نشرات الاخبار ويتربع على صدر الصفحات الأولى في الصحف داخل العالم العربي وخارجه ويملأ منتديات الإنترنت نقاشاً ونظريات وتحليلات، وبالتأكيد لن يمر هذا الحدث بسلام على من تورط في تدبيره والتخطيط له، أو حتى الإغضاء عنه والتقصير في منعه قبل حدوثه، فالعالم كله كان متحفزاً قبله، والمنطقة تقف بأسرها على كف عفريت، لم يكن يحتاج لأكثر من هذا الحدث ليخرج من قمقمه والأيام حبلى وعلى الظالمين تدور الدوائر، ولئن كانت الطريقة التقليدية في البحث عن الفاعل تشير بأصابع الاتهام للمستفيد الأول من الحدث، فإن المعارضة اللبنانية قد مدت أصابعها العشرة تجاه السلطة اللبنانية ومن خلفها الأجهزة المخابراتية السورية التي تحكم لبنان فعلياً منذ انتهاء الحرب الأهلية، وقال أمين الجميل صراحة «إن سوريا إن لم تكن مذنبة بالاشتراك فإنها مذنبة بالإغفال»، ولم يقصر وليد جنبلاط زعيم الدروز في لبنان ورئيس الحزب التقدمي الإشتراكي عن الجميل حين قال إنه من «اجل استقلال لبنان وسيادته يكون اللجوء إلى القوى الديموقراطية في الخارج شرعياً لأننا هنا في لبنان ولأن الحكم اللبناني قال لنا باغتياله رفيق الحريري «إما أنتم معنا أو نغتالكم». سنلجأ إلى الخارج فلا مانع لدينا وسقطت كل المحرمات». الأزمة التي يعيشها لبنان هذه الأيام أزمة حقيقية والأطماع الخارجية والصراع على النفوذ في المنطقة آخر ما يفكر فيه هو لبنان ومصلحة اللبنانين، ومع اضطراب الوضع الداخلي وفقدان الثقة المتبادل بين السلطة والمعارضة، والدخول في محاذير سياسية محرمة عرفا بعد الحرب، من مثل تهم التخوين والعمالة الى استخدام ادوات الصراع السياسي المستجلبة من العصور البائدة كالاغتيالات، مع هذا كله فإن تحركاً عربياً يصبح في حكم الواجب لاستباق أي صراع دولي يستبعد العرب عن التأثير وصناعة مستقبل لبنان، ومجاملة هذا الطرف أو ذاك على حساب الحق والعدل وعلى رأسه حق اللبنانيين في وطن حر وآمن ومستقل ستكون عواقبه وخيمة على الجميع وليس على اللبنانيين وحدهم. وحين يتهم طرف ما بأنه وراء عملية الاغتيال، ويرفض البعض ذلك بحجة أن أصابع الاتهام ستتجه له بالدرجة الأولى وأن المفترض فيه ألا يقدم على هكذا حماقة قد تجر عليه الويلات التي تتهدده أصلاً، فإنني لا أخفي وجاهة مثل هذا المنطق ولكنني أحسب في الوقت ذاته أن علينا قراءة خياراته المتاحة في تلك اللحظة التي يمكن ان يكون قد اتخذ قراره فيها وفي ظني ان اغتيال الحريري لم يكن أسوأها على طريقته المعهودة في الجانب السياسي!. ولذلك فإن الخطوة الأولى والأهم في لملمة شظايا هذا الحدث المريع، هي في السماح بأعلى قدر من الشفافية والنزاهة في التحقيق الذي يجري في هذه الجريمة، والسماح بدخول اطراف عربية أو حتى دولية للمشاركة في التحقيق، وإذا كان البعض ممن تعتقل تفكيره نظرية المؤامرة حتى ليحسب خلف كل حجر جهاز استخبارات صهيونياً أو غربياً فإن مثل هذا التحقيق المفتوح والترحيب به يصب في مصلحته وإثبات نظريته في العدو الخارجي، هذا إن لم يكن لديه حقاً ما ينزعج منه ويخاف من خروجه للعلن وانكشافه. في هذا الزمن العربي الصعب تقل خيارات الشعوب ونخبها المثقفة في اتخاذ مواقف مستقلة ومتوازنة، فمن كل جهة يدفعها دافع ويهزها هاز، فمن يبحث عن الاستقلال والحرية والعدالة والديموقراطية يتهم بالخيانة والعمالة في سلسلة من التهم السياسية التي هي أشبه بفتاوى الموت التي يسكها إرهابيو الجماعات الإسلامية المتشددة، ومن يطالب بذلك يصبح بوقاً لإسرائيل أو على أحسن الأحوال لأمريكا، ولكن الحقيقة الساطعة هي أن أكثر المطالبين بالحرية والعدالة يرفضون احتلال إسرائيل للأراضي العربية ويرفضون غطرسة أمريكا وطغيانها وخروجها عن قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة وتصرفها بعنجهية تجاه قضايا العالم الحساسة، واتهامهم بذلك يحجم الخيارات امامهم وربما اضطروا لمثل ما قاله وليد جنبلاط سابقاً حين قال «وسقطت كل المحرمات» وحين يكون الوضع كذلك فإن الأمر يزداد خطورة وحساسية، وعلى اللبنانيين قبل غيرهم أن يكونوا على مستوى الحدث وألا يفرطوا مهما حدث في السلم المدني الذي صنعوه بعد مرارات وويلات وكان على رأسهم فقيدهم وفقيدنا الكبير رفيق الحريري رحمه الله.