الحياة مليئة بكل شيء، فهي تجمع الأضداد والمتشابهات، فيها السرور وضده، وفيها الراحة والتعب وفيها السعادة والشقاء، وفضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. هذه الحياة يحياها كما هي كل من وجد على ظهر الأرض، لكنها حياة مؤقتة، ومحطة أولى لطريق أطول وإقامة دائمة، وقد خلقنا لهدف، ونسعى لنصل إلى بلوغ الهدف الأسمى وهو عبادة الله وحده. نحب ونكره، نرغب في أناس وننفر من آخرين، نحب بقلوبنا وعواطفنا وقد نحب بعقولنا وقد نحب بكليهما أي القلوب والعقول. جبل الإنسان بل الأحياء جميعاً على حب مقدمي الخير والنفع، والنفور من أهل الشر والضرر، وهذه تجعل لكل شخص مكانته التي يحتلها في عقول وقلوب الآخرين. قد يذهب من نبغض فلا نحس بشيء، ولا نتحسر ولا ينعكس في نفوسنا حزن ولا بؤس ولا انكسار، وهذا الوضع يمر علينا في كل يوم وتلاحظه في نفسك، حيث تنقل وسائل الإعلام أخبار العالم فيسرنا هلاك عدو لنا يطالنا أذاه، ويمد إلينا عدوانه، كما نفرح بخذلان الباطل ونصرة الحق.. الخ. وفي المقابل نحزن أشد الحزن على من نحب من الأقربين ومقدمي الخير من العلماء والمحسنين، ودعاة الإصلاح ومعلمينا ومربينا ومن كفلنا وربانا صغاراً وفي مقدمتهم الوالدان والأخوان والأرحام. وبفقدهم نكون في حال من الحزن وأحياناً اليأس، وللشيطان مداخله علينا إلا أن نستعصم بالله ونتواصى بالصبر ويغلب علينا الرجاء. لا ندري وقت الحزن ماذا نفعل، فمرة نبكي ومرات عديدة نعبر عن حبنا لمن فقدناه بالكتابة الطويلة التي تشرح لمن يقرأ كلامنا ما تكن قلوبنا من الحب والتقدير وما فيها من الحزن والألم، وكل ذلك من فيض وتدفق المشاعر وصدق الأحاسيس. لكن ماذا يفيد الميت الذي نحبه من حبنا وجزعنا هذا؟ ماذا ينفعه من عملنا فنعمل وفعلنا فنفعل وتصرفنا فنتصرف؟ هل كتابة صفحة أو صفحات من العزاء بالخط العريض تفيده أو صور من صورنا وصوره؟ هل تشفي جراحاتنا أن نداوم الكتابة وأحياناً نوجه الكلام له وهو ميت، فنقول: يا فلان فقدناك، يا حبيبنا غابت أنوارك؟ ماذا نفعل؟ لا شك أننا نخفف على أنفسنا ونتواصل بيننا كمحزونين جميعاً، لكن الميت انقطع عنه عملنا هذا، فلا هو يستفيد من صفحة العزاء ولو كبرت وغلا ثمنها وتكرر نشرها، ولا هو سامع أو قارئ لما نكتب عنه من بث للحزن على الأوراق، لذا فعلينا أن نفكر بما ينفعنا وينفع من نحب بصدق. فمنها أن نأخذ كل النفقات التي لا تنفعه وقد تضرنا فنصرفها فيما ينفعه وينفعنا كالوقف أو طباعة رسائل علمية مفيدة خلفها الميت، أو كتب نافعة فيمتد له ينبوع الأجر ولنا مثله أيضاً. كما أن مما ينفعه والجميع على علم بذلك: الدعاء له بالرحمة والمغفرة، ومسامحته والعفو والصفح وتصفية النفس، ونجعل ذلك العمل بيننا وبين الله، فلا نجعل عملنا هذا مما يقربنا إلى ذوي الميت أو نريهم صنيعنا وكأننا نمن عليهم به ونكسب ودهم ونحسن علاقتنا بهم، لأن ذلك ضرب من إنقاص العمل وخلل في الإخلاص وتغيير في الهدف الأساسي، والله سبحانه طيب لا يقبل إلا طيباً. كنت أتمنى ممن ينشر صفحة من العزاء على من مات أن يقول لأهل الميت هذا مبلغ الصفحات التي أردت نشرها خمسون ألف ريال تصرف في وقف لي وله ولكم ثوابها. فلنتبصر فيما نفعل ولا نقدم ما قد يضر أكثر مما ينفع أو تكون لنا تصرفات تفتح الجراح ولا توقف النزيف، وعلينا أن ندرس سيرة العلماء ونوصي بالسير وفق مناهجهم السليمة، نتبصر في علومهم وننشر أسلوبهم الأمثل في الحياة كقدوة يقتدى بها وسيرة يحتذى بها. رحم الله علماءنا وأحبابنا وأقرباءنا وجميع المسلمين، وعوضنا عنهم خيراً، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها، وأجرنا في مصيبتنا وأعقبنا خيراً منها، آمين يا رب العالمين.