أكتب هذا المقال فجر يوم الثلاثاء الماضي، وقد بلغ عدد الضحايا من الجانب الفلسطيني ( 555قتيلا + أكثر من 2700جريح) ومن الجانب الإسرائيلي (ثلاثة قتلى، وبضعة عشر جريحا). وعن عمد؛ كتبت ضحايا الطرف الإسرائيلي بالحروف، لا بالأرقام؛ حتى لا يتوهم أحد أن هناك خطأ ما. المسافة الهائلة بين الرقمين، قد توهم بالخطأ في الرقم الثاني وليس الأول؛ لأن تواضعه الشديد - مقارنة بالرقم الأول - تقترب به من درجة استحالة التقابل بين رقمين في معركة علنية، معركة أعلن الطرفان فيها الحرب؛ ولأن وجدان القارئ العربي المأخوذ ب (وجدانيات الحدث الأليم) الذي يأخذ به في هذا الاتجاه الحالم، الذي تتداخل فيه لغة الأوهام مع لغة الأرقام. المسافة الهائلة بين الرقمين مؤلمة وجارحة للشعور الإنساني وللشعور الديني والقومي. الألم هنا، لا يستدعي الترحيب بمزيد من القتلى على الطرف الآخر، وإنما يستدعي وقف نزيف الضحايا، بعد أن أصبحت مجرد أشلاء يتاجر به السياسيون من هذا الفصيل أو ذاك. المسافة الهائلة هنا، تكشف حجم المأساة الإنسانية التي أصبح وقودها الأبرياء. بينما يخرج منها الساسة المتاجرون بمزيد من الخطب الرعناء. رغم هول المأساة التي تكشف عنها لغة الصورة، وتكشف عنها - على نحو أدق - لغة الأرقام، إلا أن المتاجرة بالقتلى لا تزال رائجة في المزاد السياسي، فلسطينيا وعربيا. لم أذكر الرقمين متقابلين لمجرد الإحصاء، وإنما ذكرتهما لأكشف المكشوف، ولأعلن المعلن، ولأفضح المفضوح. فرغم كل هذه المسافة الهائلة بين الرقمين، لا زال تجار السياسة والإيديولوجا، يؤكدون النصر المبين، ويدعون للصمود؛ لأن مزيدا من القتلى، أو من القرابين البشرية، يعني - في حسابهم الخاص - مزيدا من الرصيد السياسي والإيديولوجي. لا عتب على الرابحين من المتاجرين بأرواح الأبرياء، بل وبأجسادهم - عن طريق عرضها اللاإنساني - بعد رحيل الأرواح إلى بارئها، فهم لن يتوقفوا عن هذه التجارة أو الدعارة؛ ما دام الرصيد السياسي في ارتفاع، لن يتوقفوا حتى آخر قطرة دم بريئة، وإنما العتب واللوم على الجماهير التي تُؤَمّن - في حالة انعدام كامل للوعي - على ما يقوله هؤلاء السماسرة والشعاراتيون الفارغون. لا عذر يسمح بمثل هذا الغياب الكامل للوعي؛ بينما الأرقام والصور تتحدث بأفصح وأوضح مما تلوكه بألسنتها جوقة الخطباء لقد وصل التضليل الشعاراتي العربي إلى درجة اغتيال العقل؛ حتى في أشد مكوناته صرامة ووضوحا. إن لغة الأرقام لغة محكمة، لم تتفق العقول - رغم اختلافها على شيء - إلا عليها. ومع هذا يتفرد العقل العربي الشعاراتي، ويشايعه العقل الإسلاموي الحالم، بفرضيات حسابية خاصة، بل وخاصة جدا. فكل العقول البشرية تدرك أن رقم (555) أكبر من رقم (3)، إلا العقل العربي المجيد - الذي يدهش العالم كل يوم باختراع خاص وفريد! -؛ إذ لا يزال يصر، بل ويؤكد - ومن بعد ذلك يصدق نفسه - أن رقم (3) أكبر من رقم (555)؛ ولتذهب لغة الرياضيات الصارمة إلى الجحيم؛ ما دامت لا تؤكد فرضيات النصر المبين، الذي تحقق - بزعم حماس - لضحايا غزة، كما تحقق قبل عامين في للنصر العظيم (الوعد الإلهي) للحزب الإيراني في لبنان! . اللغة هي أداة الإنسان في معاينة الوجود من حوله. وعندما تختل هذه اللغة، يختل العقل الإنساني، ويضطرب في معاينته للأشياء. فالإنسان كائن عاقل؛ لأنه كائن لغوي، أو هو كائن لغوي لأنه كائن عاقل. لا يهم أيهما السبب، وأيهما النتيجة، المهم أنهما متلازمان وجودا وعدما. وعندما ترتخي الصرامة اللغوية؛ فتتداخل سياقاتها، تضطرب الرؤية، ويتسع المجال اللغوي - ومن ثم العقلي - للمتاجرين بالكلام. يلاحظ أن اللغة التي يتم بها - الآن - معاينة الحرب في غزة، لغة وجدان وعواطف؛ لا تصلح لغير النياحة في مراسم العزاء. لا بأس بهذه اللغة عندما تكون في سياقها. فالحرب لها جانبها الوجداني الذي لا يمكن تجاهله ولا تهميشه بحال. لكن، عندما نريد تحديد الوقائع، وتحديد السياسات التي يجب أن تترتب على هذه الوقائع، فلا بد أن تكون اللغة متسمة بالحد الأدنى من الانضباط اللغوي؛ حتى يتوفر المقابل لهذا الانضباط، أي الحد الأدنى من الرؤية العقلانية التي لا يُغَشّيها الضباب الوجداني الكثيف. عندما تتقدم القراءات السياسية للحدث الغزاوي لجماهيرها القارئة بمحض قراءات وجدانية، أو عندما تخلط الوجداني بالسياسي، فإنها لا تقدم لجماهيرها سوى التضليل. القراءة السياسية لأية واقعة، يجب أن تختلف عن لغة الشاعر والشارع. فلغة القراءة السياسية لا بد أن تُقدّم استبصارا عقلانيا - أو تحاول أن تكون كذلك - للحدث؛ من أجل أن يمارس الفاعل السياسي - على ضوئها - فعله السياسي سياسيا، أي أن يتعاطى مع الحدث كسياسي مشروط بشروط الواقع، وليس كشاعر مشروط بشروط الوجدان وعالم الأحلام. واضح أن القراءة السياسية لحرب غزة تراجعت كثيرا لحساب القراءة الوجدانية. ولا بأس في ذلك؛ لولا أن المسألة لم تقف عند حدود طغيان مساحة على أخرى، وإنما تعدتها إلى امتزاج في القراءة الواحدة. لم تعد تعرف ما إذا كان الكاتب يقدم رؤية سياسية للحرب أم رؤية وجدانية. اختلط النواح بمساءلة الواقع والوقائع، وتماهت الشعارات الدينية والقومية مع الحسابات السياسية، التي جعلت من الحرب فرصة لفرض الخيارات السياسية، وأحيانا لفرض الخيارات الإيدولوجية؛ بعيدا عن مأساوية الحرب، أو - على نحو أدق - استغلالا لمأساوية الحرب، ومتاجرة بضحاياها الأبرياء. نتيجة لهذه الفوضى العارمة في القراءات، التبس الواقع بالمقدس، المقدس الديني والقومي وبل والمقدس الإنساني. أي أن القراءة السياسية لم تعد قراءة في السياسة، إذ استحالت البراءة عليها بعد هذا الالتباس، أو هذا الخلط المتعمد، الذي أصبحت القراءة السياسية - بعده - محاصرة في ثنائية حادة، تلغي الوعي السياسي من أساسه. إنها ثنائية: الأنا والآخر، المتعدى عليه والمعتدي، البريء / الضحية (= كامل البراءة! ) والمجرم / القاتل (= كامل الإجرام!). وبهذا تتحدد معالم القراءة سلفا، بل وتحاصر تفاصيل الرؤية داخل هذه المعالم؛ إلى درجة تنتفي فيها المبررات الموضوعية لوجودها أصلا. هذا الحصار الذي تسببت فيه هذه الفوضى بين لغات القراءة من جهة، والتلبس بالمقدسات من جهة أخرى، أدى إلى عبثية كتابية، ظهرت في المقدمات الاضطرارية، التي جعلت ممن يريد أن يتقدم برؤية سياسية لا تساير الصخب الشعاراتي الوجداني، مضطرا إلى مقدمة غير منطقية، مقدمة ينبذها التسلسل المنطقي للمقال السياسي، مقدمة تستجدي العفو والمغفرة؛ عن طريق التأكيد على أنه يشجب - بقوة ووضوح - ما تفعله إسرائيل. وربما اضطر إلى التبرع بالشتائم للمهاجم الغاشم؛ حتى يستطيع أن يقول شيئا - ولو قليلا - لا يتفق مع الوجدان الصاخب، الذي يحاصر القراءات السياسية الموضوعية، التي تحاول رؤية الواقع كما هو؛ أسبابا ونتائج وسياقات..إلخ. إذن، هنالك حالة (قمع) للقراءة الموضوعية، التي قد تختلف عن القراءة الوجدانية العامة، بل هي - في الغالب - تختلف معها في كثير من خطواتها ونتائجها. وهذا يعني أن الفرصة متروكة للخطاب الوجداني؛ كي يحتل الوعي السياسي، ويحاصره - من حيث هو خطاب محاصر - في خيارات غير سياسية، أي خيارات وجدانية في السياق السياسي. وهذا لا بد أن يؤدي إلى كوارث كبرى. وليست الكوارث التي يعانيها العالم العربي والإسلامي، إلا نتيجة لهذه الخيارات الوجدانية، التي تقدم بها كهنة السياسة لرؤية الواقع من خلال الوجدان. لهذا، ومن أجل خلق بيئة تسمح بوجود قراءات ما بعد وجدانية أولا، وقراءات موضوعية (بالقدر الإنساني المعقول، وإلا فلا موضوعية مطلقة) ثانيا، لا بد من التعاطي مع أحداث غزة - والأحداث المشابهة - بقراءة سياسية، تكشف عن أكبر قدر ممكن من الالتباسات التي رافقت - وترافق - الحدث. لا بد أن نبدأ من هذا الحدث - كمثال - لاجتراح طريقة (شبه موضوعية) في قراءة الوقائع السياسية التي تتماس مع وجداننا العام، والتي يقاطع فيها الشعاراتي مع السياسي. إشكالية القراءات التي عاينت حرب غزة، والتي زادت من تأزمات الوضع الإنساني فيها، أنها لم تُعنَ بما وراء الوجدان. ومن ثم، كانت فرصة كبيرة للتضليل وللمتاجرة، ومن ثم، لتزييف الوعي الجماهيري - والنخبوي أحيانا - بالحدث. وللخروج من أسر هذه القراءات التي هي مجرد اختناقات وعي، وتأزمات عقل جمعي، لا بد من التأكيد على ما يلي: 1- لا بد من وضع حد فاصل وواضح بين اللغة الوجدانية، التي يجب وضعها في سياقها، وبين اللغة التي تتغيا الموضوعية؛ كخطوة أولى لوعي سياسي يراد له أن يتجذّر في الواقع. الفصل لا بد أن يكون واضحا، بحيث نعي - ومن ثم يعي المتلقي - أن الأحداث والوقائع لا تسيرها مشاعرنا، ولا تفاعلنا مع الحدث. بل لا بد من وعي بالسياق الواقعي للحدث؛ كي نتعامل معه بوضوح، وبالآليات المناسبة، الأكثر نجاعة، والأقل تكلفة وضحايا. كراهية العدو الإسرائيلي، ومحاولة إلهاب العواطف ضده، بتصويره بمثل هذه الوحشية، واستجداء التدخل العالمي، كل هذا لا يبرر الكذب والتزييف. خلق رؤية مزيفة لوقائع الحرب، لا يضر العدو بل يضرنا، ويجعلنا نتوهم أشياء لا وجود لها، ونتعامل مع عدونا، ليس كما هو، وإنما كما تصنعه عواطفنا التي يتلاعب بها الشعاراتيون المتاجرون بالقضية والإنسان. ليس هذا نفيا للوحشية عن السلوك الإسرائيلي الصهيوني، وإنما هو تحديد لما هو واقع الآن. تاريخ الدولة الصهيونية، لم يخل من جرائم وانتهاكات وحشية، جرت في أوقات كانت درجة الرقابة الدولية، والرصد الإعلامي العالمي، أقل مما هما عليه الآن. لكن، وفي هذه الحرب الأخيرة على غزة، لا تستطيع إسرائيل قصف المساجد ولا المستشفيات ولا مناطق الكثافة السكانية؛ لا لأن لديها رادعا ذاتيا يمنعها، وإنما لأنها لا تستطيع فعل ذلك؛ وإلا ستخسر منطق الصراع أمام العالم الذي يتابع تفاصيل الحدث لحظة بلحظة. ومن هنا، فإحجامها عن مثل هذا الاستهداف الذي يدعيه الشعاراتيون الصاخبون، إحجام براجماتي، لا غير. فتأكيدنا على هذا، لا يعني أننا نمتدح السلوك الإسرائيلي، أو نمنحه مسحة أخلاقية، وإنما يعني أن هذا هو الواقع الموضوعي، ويجب أن نراه كما هو دون تزييف أو تضليل.