مشكلة العربي بالأمس واليوم ، وربما غداً، هي في تصوره أنه عندما يقوم بتشكيل الواقع كما يرغب على مستوى الكلمات، أن الواقع يتغير فعلاً، وأنه لا ( يبدو ) كذلك فحسب، بل هو كذلك فعلاً. بين الحقيقة والخيال هناك فارق نوعي يصل بهما أحيانا إلى درجة التضاد التام . لا يعني تقرير هذا الفارق وتأكيده هنا أنني أقوم بتفضيل أحدهما على الآخر من حيث مستوى إيجابيته ؛ بقدر ما يعني أنني أشير في سياق مقاربة مستقبل العرب السياسي الى أن لكل منهما وظائف يضطلع بها في مجاله الخاص . والتداخل الفضوي بينهما ، كما هو حاصل الآن ، لا بد أن يؤدي إلى خلل في الرؤية ، ومن ثمَّ ، خلل في الفعل ، على مستوى الأنظمة ، كما على مستوى الجماعات المعارضة ، وعلى مستوى سلوكيات الفرد ، كما على مستوى سلوكيات الجماهير ..إلخ. العربي منذ القِدَم حاول تعويض الفقر المدقع في واقعه بالامتلاء اللغوي . صنع من خلال اللغة عوالمَ وهمية يهرب إليها من قسوة الواقع . حاول الإنساني العربي التمدد من خلال اللغة ؛ حينما عجز عن التمدد في الواقع من خلال الفعل الواقعي ؛ لأن الواقع ( = واقعه ) كان فقيرا ومدقعا ومتواضعا ومحدودا إلى أبعد الحدود . وبما أن الواقع هو مادة الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها بحال ، عمد العربي إلى القفز عليه بواسطة الخيال ، الخيال الذي يستحيل تجسده في الوعي إلا من خلال اللغة ، تلك اللغة التي يجب أن تكون ( شاعرية ) ؛ كما تستجيب للتهويمات الممعنة تحليقا في عالم الخيال. منذ العصر الجاهلي الأول ، العصر الذي تخلقت فيه اللغة العربية حيث تخلق الوعي العربي ، لم تكن اللغة تحكي الواقع ، لم تكن اللغة تُقارب الواقع ، بل كانت تصنع عوالمَ حالمة ممعنة في سماوات الخيال . ولهذا كانت تعبيرا عن أحلام ورغبات وتخيلات ، قبل أن تكون تصويرا مقاربا للواقع ؛ ولو في حدود المجاز. تقرأ عن حرب داحس والغبراء ؛ فتتصورها من خلال اللغة التي نقلتها ( = اللغة الشاعرية !) حربا شعواء فتكت بالآلاف وأهلكت الحرث والنسل ، بينما هي في الواقع أشبه ب( مناوشات ) و ( اضطرابات ) ، أي وقائع هامشية تحدث كل يوم في قُرانا وهجرنا وفي الشوارع الخلفية لعواصمنا ومدننا الكبرى. تقرأ عن حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة كما يقال ؛ فتتخيلها حربا طاحنة تلتهم آلاف القتلى ، ويتبادر إلى تصورك أن الفريقين قاربا حد الفناء ، بينما في الحقيقة حرب متواضعة جدا ، لم يتجاوز عدد القتلى أربعة عشر قتيلا على مدى سنواتها الأربعين ؛ كما ينقل الأصفهاني في الأغاني . بل لقد كانت وقائع متواضعة ، بعضها معارك بالعصي وبالحجارة ، لكنها تحولت بفضل الشعر المفتوح بلا تحفظ على فضاء الخيال إلى معارك كبرى فرضت نفسها على حركة تدوين التاريخ ؛ لأنه لم يكن ثمة غيرها يشير إلى أية حركة في ذلك التاريخ المجيد! عمرو بن كلثوم الجاهلي يعكس هذه الاستعاضة بالخيال عن الواقع ، ومن ثم عن الحقيقة ، فيقول : ملأنا البَرَّ حتى ضاق عنا وظهر البحر نملؤه سفينا ومن الواضح أن هذا بيت لو قاله شاعر انجليزي عن بريطانيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لكان كاذبا ، فكيف بشاعر قبيلة لم تمتلك بضعة قوارب ، فضلا عن السفن ؟! ولم يكن عدد أفرادها يتجاوز ألفين أو ثلاثة آلاف على أكثر تقدير. الأسطورة: عنترة بن شداد يُصرّح في مقولة نثرية له أنهم في غزواتهم كانوا في حدود ( 100) مقاتل فقط ، ومع هذا بدا في الشعر العربي وكأنه يقود مئات الألوف في مُواجه مئات الألوف . ولا يخفى أن كل معارك العرب التي وردت في ( أيام العرب ) ، وما بعدها من معارك ، لم تكن أعداد القتلى فيها تتجاوز خانة العشرات إلى المئات . ومع هذا ظهرت في التاريخ ( = تاريخنا خاصة ) وكأنها حوادث كونية كبرى أورثت عشرات الألوف من الضحايا. لا مشكلة في الاحتماء وجدانيا باللغة ؛ بغية الاستشفاء ، وذلك من خلال الانغماس في جماليات النص الإبداعي الذي يكتسب هويته من خلال الخيال ، كما لا مشكلة في اللعب على فائض المعنى ، ولا في استثمار الأبعاد الإيحائية للكلمة ولو إلى درجة الوقوع فيما وراء المفارقة ، لا مشكلة في كل هذا ؛ ما دام مُمارِسه ومُتلقيه يعي أنه نشاط جمالي في سياق لغوي لا يحاول الرصد العلمي للواقع بحال ، أي مادام واعيا تمام الوعي أنه يعيش لحظة ( الكذب ) الجميل! مشكلة العربي بالأمس واليوم ، وربما غداً، هي في تصوره أنه عندما يقوم بتشكيل الواقع كما يرغب على مستوى الكلمات، أن الواقع يتغير فعلاً، وأنه لا ( يبدو ) كذلك فحسب، بل هو كذلك فعلاً. هذا الوهم لم يبق في حدود الوهم . فالمتنبي الذي يتصور أنه سيقود الجويش المليونية حتى " تشرق الحجار ونجد والعراقان بالقنا والشآم " ، هو صورة الفرزدق الذي بلغ قومه عدد الحصى ، وهما النسخة الثقافية الأصلية لإذاعة صوت العرب الناصرية التي حققت الانتصارات الكبرى بالحناجر الفارغة ، بينما كانت الهزيمة الساحقة الماحقة تجتاح الوطن الغالي كما الطوفان. ما ( المتنبي ) ولا ( الفرزدق ) ، ولا ( صوت العرب ) .. وأشباهها كثير في تاريخنا البعيد والقريب ، إلا المبرر الوجداني والثقافي لقناة ( الجزيرة ) التي تماهت مع كل هذا ، ولكن ظهرت وكأنها تبدو بصورة تتجاوز كل هذا ، أي بصورة هي الأكثر ذكاء ، لكنها ربما هي في عمقها الأشد غباء من كل هذا بما لا يقاس. من الواضح أن كل هؤلاء الواهمين لا يختلفون عن أي شاعر شعبي ساذج ، أصبح محل سخرية الجماهير ؛ عندما تصور أنه سيواجه بقصيدة هجاء ، أو بقصيدة وعيد تتذكر ( مآثر !) الآباء والأجداد ، كل أنواع التهديد الصادرة عن المشروع السياسي الكبير لإيران . لا شك أن مثل هذا وجماهيره يتصورون أن المعارك البكرى سيتم حسمها بالصراع على الصور الفنية التي يتفننون بها . وإذا كان من المبرر جماليا ووجدانيا أن يتنعم هذا وجماهيره بمثل هذا الوهم الجميل ، فإنه يبقى مشروعا ؛ ما لم يكن انعكاسا لوَهمٍ عام ، وَهمٍ يتحكم في مسيرة الخيارات الكبرى ، أو على الأقل يتسبب في عرقلة الوعي على مستوى التلقي العام. يتوهم الإنسان العربي اليوم أنه قد تخلص من عصر القذافي إلى غير رجعة عندما قتل القذافي . بينما الواقع ( بكل ما فيه من تاريخ وثقافة وفن ...إلخ ) يشهد على أن القذافي ، كما كان صدام من قبل ، حي لم يمت . مات القذافي جسدا ، ولكنه بقي رغم جنونه ( حالة ) حية تستمد مشروعيتها من الرؤية التقليدية التي تجتر التاريخ المتخم بصور القذافي الأشد قذافية من القذافي ذاته . إذا كان القذافي يتحدث بلغة الجرذان ، ويقتل ويفتك ويدمر بكلمة واحدة في لحظة جنون ، فممثلو عصورنا الذهبية التي نتغنى بها ليل نهار ، كانوا يُنهون حياة عشرات الأبرياء بكلمة واحدة في ليلة ظلماء خرساء ، كانوا يضعون النطع بين أيديهم ، يقطعون الرؤوس في فورة غضب عابرة ، وكان يخاطبون نظراءهم من الملوك ب " من ( فلان ) ...إلى ( فلان ) كلب الروم ...إلخ ، وهل تختلف عقلية استبدادية قمعية تستخدم في التحاور مع خصومها مفردة ( الكلاب ) عن تلك التي تستخدم مفردة ( الجرذان ) ، أليست الصورة الحديثة التي يتم شتمها الآن هي النسخة المهذبة للصور الأولى ؟! إنه مجرد سؤال!! يتبع