صدرت الميزانية الجديدة لعام 2009م بما تحمله من أرقام ومشروعات ونُشرت التصاريح والمقالات بالآمال والتطلعات بما سيتحقق في مجالات التنمية، ولكن على الرغم من انحصار الاهتمام ببيانات الميزانية لسنوات طويلة على المسؤولين بالجهات الحكومية وبعض المختصين، فان الملاحظ خلال السنوات الأخيرة هو بروز الاهتمام الشعبي - بمختلف الثقافات - بالميزانية وبترحيب بالغ بأرقامها ولكن من منطلق " لعل وعسى" أن ينعكس ذلك على أسعار سوق الأسهم! فالهدف الأساسي من اعتماد المشاريع بالميزانية تم تجاهله بسبب حالة الإحباط من المشاريع التي سبق اعتمادها بالميزانيات السابقة ولم يتم تنفيذها والاستفادة منها! فتلك الحالة خلقت لدى المواطن مفهوما جديدا للميزانية بأنها تتمثل فقط بما يتم تنفيذه ويستفاد منه وليس بمايتم الإعلان عنه! فتفاعل المواطن مع أخبار الميزانية كان يمثل انجازا لخلق تواصل مطلوب بين المواطن ومشاريع التنمية، إلا أن بيانات الميزانية التي تعلن سنويا لم تواكب ذلك التطور، فقد استمرت بالصدور كل عام بنفس المصطلحات والإيضاحات، ومع تزايد اهتمام المواطنين بالميزانية وتباين الفهم لما تحمله من أرقام وبيانات لم يتم إعادة صياغة إعلان الميزانية وبياناتها لتبسيط مفاهيمها للجميع لتلافي اللبس في فهم مدلولات بعض أرقامها، فبيان ميزانية عام 2009م تضمن إيضاحا عما تحقق خلال عام 2008م والذي من خلال ما احتواه من أرقام تسبب في عدم فهم الكثير لتلك الأرقام على وجهها الصحيح، وهو ما دعا البعض الى الاعتقاد بان الميزانية تحتوي على تناقضات! فالبعض سمع لأول مرة بان الإيرادات كانت أكثر من تريليون ريال، ولكنه صدم عندما سمع بان الدولة لم تتمكن حتى الآن من سداد كامل الدين العام! ثم ذهل بان الميزانية القادمة ستعاني من عجز بمبلغ (65) مليار ريال! فإبراز الكثير من المعلومات للعموم يتطلب أن يتم عرضها بأسلوب واضح ومقنع، فوفقا للمعلن عن الميزانية تجدد طرح التساؤل: متى ستتمكن الدولة من سداد الدين العام؟ ولماذا تصر وزارة المالية على تذكرنا بالدين العام على الرغم من فائض الإيرادات الذي تحقق خلال السنوات الأخيرة؟ بل إن العديد من المتخصصين الاقتصاديين طالبوا قبل أيام بان يتم البدء بتأسيس صناديق استثمارية للأجيال القادمة بعد سداد الدين العام! وأمام هذا الغموض كان لا بد أن يتم إيضاح السبب الحقيقي في بقاء الدين العام "ظاهريا" خاصة وانه لايمثل عبئا على الدولة "عمليا"، فقبل أكثر من عام عرضت الدولة على حملة السندات استرجاعها وسداد قيمتها قبل تاريخ استحقاقها، إلا أن حملة السندات والبنوك رفضت ذلك حينها لكونها تمثل موردا ماليا مضمونا وأصبحت بالوقت الحالي تحقق فوائد أعلى! فالدولة حققت خلال عام 2008م فقط فائض إيرادات ب(590) مليار ريال بينما الدين العام يبلغ (237) مليار ريال، وبالتالي لايمثل الدين العام عائقا أمام تأسيس صناديق استثمارية للأجيال القادمة! وكذلك أيضا مايخص العجز المتوقع حدوثه العام القادم والمقدر ب(65) مليار ريال، فالميزانية القادمة تم إعدادها بشكل مستقل عن الميزانيات السابقة وإذا حدث عجز فعلي فانه سيتم تغطيته من فائض إيرادات السنوات الأخيرة، وبالتالي فان كلا من الدين العام والعجز المعلن – حتى وان أدرجا بإيضاحات الميزانية - لايمثلان ثقلا على الدولة خلال العام القادم كما فهمها البعض! أما فيما يتعلق بالنظرية الاقتصادية في إعداد ميزانيات الدول التي تعاني من أزمة او ركود، فانه يتم اللجوء عادة الى خلق عجز بميزانياتها لجذب الاستثمارات الأجنبية لاقتصادها وتركز خلال أوقات الركود الاقتصادي على تنفيذ مشروعات البنية التحتية لضخ الأموال للشركات التي ستنفذ تلك المشاريع ولتقليل نسب البطالة ولإنعاش الاقتصاد لكون العمالة والمواد محلية، ولكن على الرغم من عدم انطباق تلك الظروف على المملكة، إلا أننا طبقنا تلك النظرية كما ولو كنا نعاني من الركود، فالوضع لدينا مختلف تماما فنحن نملك الأموال القادرة على سد العجز ومقاولينا لديهم تخمة كبيرة من المشاريع التي لم تنته، والفائدة من تلك المشاريع ستكون للخارج، فالعمالة أجنبية ومعظم المواد مستوردة! حتى استفادة شركاتنا المساهمة من المشاريع مازالت تقتصر على شركات معينة ومحدودة لم تستفد حتى الآن مما اعتمد بالسنوات السابقة! إن هناك فجوة مازالت تتسع عبر السنين بين مايعلن بالميزانية ومايشاهد على الواقع، فمشكلتنا أننا نعلم قبل إعلان الميزانية بأنه عند تطبيقها ستواجهنا نفس المعوقات التي تسببت في تأخير المشاريع السابقة! وستتخذ جهاتنا المختصة نفس الإجراءات التي اتخذتها سابقا ليس لإزالة المعوقات ولكن للخروج من مسؤولية تأخير التنفيذ! حيث لا توجد هناك جهة تنفيذية عليا تتولى مسؤولية متابعة إزالة تلك المعوقات لتحول الميزانيات من أرقام الى منجزات! فالعديد من المشروعات التعليمية والصحية مازالت تنتظر الأراضي لتنفيذها ومع ذلك نجد بالميزانية الجديدة المئات من المشاريع الجديدة التي ستلحق بسابقتها، كما انه لم يتم الاستفادة من الميزانية كأداة رقابية جديدة على الجهات الخدمية! فاعتماد المشاريع الجديدة يجب أن يربط بالمنجز سابقا، فالجهات التي نجحت في تجاوز المعوقات تعتمد لها المشاريع، أما الجهات التي فشلت في ذلك فيركز على وضع الحلول العملية لها سواء بتغطية العجز بمشاريعها السابقة او بسرعة إنهاء الإجراءات واللجان المكلفة بإزالة المعوقات حتى وان تم التدخل في اختصاصات بعض الجهات وتغيير المسؤولين بها! فالمليارات اعتمدت بالميزانية ولايجب أن يعيق تنفيذها بضعة ملايين او تهاون موظفين! فالميزانية في حقيقتها خطة تنفيذية لخطط تنموية تم إقرارها لسد احتياجات عاجلة!