ماهي الرواية العربية الجديدة، ومتى يكف جديدها عن أن يكون جديدا؟ هذا السؤال يبرز على امتداد الفترات التي كتب فيها العرب الرواية، ولا نحتاج كبير جهد ونحن نقّلب أوراق الماضي،لنكتشف ان السؤال نفسه يكاد يصحب كل الملتقيات الروائية، والمنابر البحثية. وليس بوسعنا العثور سوى على أجوبة من خارج المكان، وكأننا نقر بأن الرواية تملك تراثا وذاكرة لم تستوطن بعد مكانها العربي. فهناك آداب طرفية،مثل الأدب الاميركي اللاتيني، أسهمت في صنع حداثة الرواية الغربية، في عودة الى السرد الشفاهي وثقافة الأماكن المعزولة عن العالم الغربي وقيمه.صحيح ان كتّاب الرواية في أميركا اللاتينية ينتمون الى الثقافة الغربية، ولكن عالمهم الروائي كان يعتمد في جديده،على فكرة الابتعاد عن التراث السردي الذي أنتجته الطبقة الوسطى في الغرب. قد يكتشف النقاد العرب في بحثهم عن الجديد في الرواية، انهم ينقّبون في بحر متلاطم من الاعتبارات، ومنها فكرة الحداثة نفسها، فجديد الفن الروائي قد لايلتقي بالضرورة مع تقنية صنع الأفكار الحديثة، أما قواعد السرد التي تأسست تحت تأثيرات عقلانية الغرب وتطوره الاقتصادي والإجتماعي،فهي قد تعرضت الى اختراقات غير مسبوقة.ولعل إستدارة الرواية الغربية الى عالم الغيب والسحر،يدرج في باب حداثة رأت في عبادة العقل لاعقلانية جديدة. اكتشف الروائيون العرب قيمة ألف ليلة وليلة بعد مرور حقبة طويلة من اكتشاف الغرب لها،أي بعد ان وظفها ماركيز وبورخيس وسواهما في مروياتهم، وماركيز نفسه الذي صّرح في غير مناسبة، أن نوع فنه يعود الى بقايا التراث العربي المضمر في الفن الشعبي الاميركي اللاتيني، كان شديد التأثير على ما يمكن أن نسميه الحداثة الروائية العربية التي ظهرت في ثمانينات وتسعينات القرن المنصرم. وفي وقت كان الفرنسيون وفي مقدمتهم فلوبير يعيدون إنتاج ألف ليلة وليلة،في القرن التاسع عشر، كان العرب يحاولون الابتعاد عن تراثهم السردي، متوسلين واقعية مبسطة،يتعرفون عبرها على الرواية، باعتبارها الفن المفتقد في تراثهم. وهكذا كان الجديد في الرواية العربية،يسير على ما سكه الاخرون من طرائق، فلا قدرة له على الابتكار لانه محكوم بقواعد واجراءات وذائقة عالمية. تلك هي لعبة الأكوان الطرفية، ولن يقيض لها النجاح في البحث عن خطاطات جديدة تشبه التي تبحث عنها المراكز التي تنتج الحداثة وما بعدها، فهذه الاخيرة تلعب في ملعبها، غير عابئة بمن عاش على تقليدها. عندما "اخترعت" الرواية في الغرب،حدث ما يشبه التناشز الذي أدى الى المواءمة في نهاية المطاف، بين ثقافة المطبوع والثقافة الشفاهية (الملاحم والمسرح)، وكان المتغير النقدي، ومساهمة الروائيين أنفسهم، في التنظير للرواية، وراء إخراجها من استنساخها الواقع، الى معالجة العوالم الباطنية والمنظورات المنوعة للراوي والمروي عنه والمروي له. ولكن الرواية قبل كل شيء، كانت أهم منجز من منجزات عصر الطباعة، فهي بين كل أجناس الكتابة، استطاعت ان تخلق القاريء الصبور وتقدم له خبرة الحياة وخلاصة الأفكار والقيم والفلسفات الحديثة، في إطار المتعة والتشويق، ولعل إدمان عادة القراءة، يعود عند الكثير من القراء الى المرحلة الاولى التي كان للرواية فضل تنميتها. ومن هنا ينبثق السؤال حول إمكانية صمود الرواية بعد أن أوشك العصر الطباعي على الأفول. الصراع في الرواية الغربية الآن يتحدد في مواءمتها بين ثقافتين: ثقافة الكتاب المطبوع، والثقافة الالكترونية، وإن كان دفاع المطبوع عن نفسه جرى عبر وضعه على الانترنيت، وقبلها سهولة نشره من خلال التقنية الالكترونية، غير أن الرواية الألكترونية، بقيت الى اليوم في حيز مختلف عن الحيز الذي ملكته في عصر الطباعة.فالثقافة الالكترونية تنذر بموت المؤلف الحقيقي،لا على طريقة رون بارت، ولكن على طريقة الامحاء الحقيقي لسلطة التأليف، وعدم ثبات العوالم التي يساعد على توليدها العقل الالكتروني، والواقع الافتراضي. دخل العرب في عالم الحداثة الاتصالية في وقت قياسي، بسبب السرعة التي تساعد على امتلاك التقنية المعاصرة، فحلت قصص الفضائيات التلفزيونية محل القصص المقروءة، وعممت الثقافة المرئية بما فيها ثقافة الوثيقة التاريخية والعلمية على جمهور لايقاس من حيث الكثرة بجماهير المطبوع.وبدا الأمر وكأن قراء الرواية في طريقهم الى الانقراض،بعد ان سادت ثقافة التلفزيون. بيد أن هذا التطّير يناقض واقع الزيادة الواضحة لعدد كتاب الرواية العرب،وربما كانت الفضائيات التلفزيونية العربية وراء انتشار السرد القصصي المدون، فالدراما التلفزيونية التي كانت مادة أساسية من مواد مقاربة الحياة الواقعية للناس، قد أسهمت في تنشيط الرواية، وخاصة في بلدان الجزيرة العربية التي كانت الممولة الأولى للفضائيات التلفزيونية. انه احتمال بين احتمالات كثيرة وراء السر في إعادة الاعتبار للرواية المطبوعة في عصر ضمور عادات القراءة. ولعل حركة النشر الشبابي الناشطة في ميدان الرواية المصرية، تشير الى ترجيح كفة المطبوع على النشر الالكتروني. من هنا يظهر الاختلاف في مفهوم التحديث الروائي بين العرب والغربيين. فالصلة بين النشر الالكتروني والمطبوع الورقي مازالت قوية عند العرب، والروائيون العرب، وخاصة الشباب منهم، يحاولون استخدام الرسائل الالكترونية ولغتها وتقنيتها في المطبوع الورقي الروائي،في رحلة عكسية للتجديد، في حين يستغرق النقاد في البحث عن حداثة الرواية العربية، داخل المجال الألكتروني، فيكون النقد قد استبق الوجود الحقيقي لما يطلقون عليه "الرواية الرقمية" العربية. وفي الظن ان تعريف الحداثة الروائية عند العرب، يقتضي البحث عن صيغ نقدية لاتتجاوز الواقع الروائي العربي وتستبقه، كي لايكون النقد قد وضع العربة قبل الحصان. فمازالت الرواية العربية تختبر نفسها ضمن السياق القديم للكتابة، وصلة الشباب العربي بالنشر الالكتروني، تبحث عن تجديد الخطاب عبر فضاء من الحرية غير محدود بمتعارفات المجتمع والانظمة السياسية، وما يشغلها فكرة الحرية نفسها،كما تلوح في حشد من الروايات العربية الشبابية. في هذه الحالة، ربما يجوز لنا أن نقول ان ما تحاوله الرواية العربية من تجاوز خطابات الماضي، يتقدم في مهمة حداثتها على خلق النص الجديد تقنية وإسلوبا، ولكن المؤكد ان الرواية الرقمية لم تخلق بعد في العالم العربي.