عندما أزور بيروت أزور العم عادل بطل صاحب محل تسجيلات على طرف شارع الحمراء ليس بائعاً عادياً بل هو صاحب ذوق بقدر ما يشعرك بأنه فات زمن عليه حيث توقفت حواسه الجمالية إلا أن ذاكرته وحماسه لبعض من الفنانين الحاليين تتخذ طابعاً إيديولوجياً ولكنه بوجهة نظر. وبما صوت المسجل يرن رنيناً عميقاً بصوت نور الهدى، حيث شدت بقصيدة: يا جارة الوادي، غناء مرسلاً دون آلات وترية وإيقاعية كما طلب منها مستمعو ومستمعات الإذاعة اللبنانية في برنامج خصصت فكرته بزيارة الفنان/ الفنانة في بيته/ها.. .. حين غنت: يا جارة الوادي، قطعت مسافة كبيرة تجاوزت بها صاحب اللحن والتسجيل الأول: محمد عبد الوهاب، وإعادة تسجيل فيروز بإضافة بيت: "ضحكَت وُجُوهُها وعُيُونُها/ ووَجَدتُ في أنفَاسِها ريَّاكِ". .. غنت نور الهدى قادرة على إبطال لحن عبد الوهاب وربما لتردمه حين ذهبت بعيداً بمقاطع ارتجالية فحلقت، خاصة في مقطعين منها، كاشفة عن مرجعية غنائية عميقة الجذور بسكك المقامات الموسيقية فعلى أن المقام الأساسي يرتكز على درجات البياتي والحسيني، إلا أنها تحلق إلى خلايا من مقام الحجاز والصبا في ملامسات سريعة دون أن تشعر السامع بتلك الألعاب الموسيقية. .. ففي المقطع الأول: "لم أدرِ مِا طِيبُ العِناقِ علَى الهَوَى/حتى ترفَّقَ ساعدي فطَوَاكِ" تكشف لنا عن مزاج غناء القرن التاسع عشر بتقطيع الجملة الشعرية عبر لعبة مد صوتي للحركات: الفتحة والكسرة، على هذا الشكل: "لم أدر ما" ثم "طيب العناق" ثم "على الهوى"، ولكنها تحلق في مناطق وعرة عندما تستثمر المد الصوتي التصاعدي في شكل معجز بكلمة: ساعدي، والبراعة في الانتقال من علو فانخفاض مفاجئ بين ألف المد ثم كاف الخطاب المكسورة في كلمة: طواك. .. وفي المقطع الثاني: "وتعطَّلَت لُغَةُ الكَلامِ وخَاطَبَت/عَيناي في لُغَةِ الهَوَى عَيءناك" تضفي شعوراً ذا شجن مكثف ويأخذنا إلى مشاعر مبطنة كما يصف البيت الشعري بأن لغة الكلام صارت بين عينين دون كلام، وهذه ترجمة جبَّارة بالأداء الصوتي ربما تتجاوز الشاعر لو ألقى والملحن في لحنه، فهي سحبت هذا اللحن في ارتجالها نحو أسلوب أداء الموال البغدادي الذي يشعرك بحالة جنائزية ليعبر عن خرس العيون دون الكلام، ويذهب نحو مزاج الترتيل والتجويد في حالة رجاء خشية ألا يكون هذا الخطاب فاشلاً.. .. ولا نغفل بأن هذين المقطعين يعدان قنطرة في لحن القصيدة لكونهما في حالة الانفعال الغنائي كسر لرتابة اللحن في تكراره على إيقاع الوحدة الذي كان غائباً وفي تكرار اللوازم الموسيقية عبر الكمنجات التي كانت غائبة أيضاً ففي أداء نور الهدى لهذا التسجيل كانت غائبة فلم تكن الفرقة إلا صوتها ولم يكن الصوت إلا حنجرتها.. وبرغم أن هناك تسجيلين تلفزيونيين واحد للتلفزيون السوري على مسرح معرض دمشق، والآخر لبناني في استوديو إلا أنها قدَّمت في الأخير ارتجالات مغايرة خاصة في مقطع: لم أدر ما طيب العناق.. .. ولعبت به من خلال مَرجَحة صوتية كان عازف الكمان عبده داغر مجيداً في مرافقتها وقيادة الفرقة لئلا تفسد مزاج السلطنة الذي كانت وصلت ذروته رغم خجل تبدَّى كلما تفاعل الحضور بأكثر من التصفيق بكلمات إعجاب تحرجها وترسم ابتسامة على وجهها فتغيب عيناها.. .. ولعل نور الهدى، مع سعاد محمد ومها الجابري ووداد وعفيفة إسكندر ونهوند وشهرزاد، يمثلن قامات من الغناء النسائي التقليدي على أصوله، فهن الوريثات الشرعيات لصف المغنيات العربيات الخالدات: ماري جبران وفتحية أحمد ونادرة أمين.. .. وبرغم ما تعرضت له نور الهدى من أذية في تعثر مسيرتها الغنائية والسينمائية مطالع الستينيات في مصر وعودتها إلى بلدها لبنان وعملها القليل من خلال أغنيات مسلسلات وبرامج إذاعية موسيقية مع ميشال خيَّاط وشفيق أبو شقرا وتوفيق الباشا إلا أنها خالدة فهي بحق جارة الوادي التي كتب أحمد شوقي قصيدته تلك عن مدينة زحلة وواديها الذي جاورته عوضاً عن قصيدة حلم أن يكتبها عن فتاه محمد عبد الوهاب الذي فزع وأرضى تشاؤمه بها، ورغم أن القصيدة أعادت غناءها فيروز في نهاية الستينيات ولكن مسابقة أجريت من سميعة سوريين عن أجود تسجيل فراحت الأصوات من نصيب نور الهدى التي هي جارة الوادي بحق.