يجهل الكثيرون معنى السلفية.. ويحصرونها بالرجوع للماضي في كل شيء دون وعي، السلفية هي الانطلاق من النص (القرآن والسنة) في شأن العبادات والتشريع فقط، حيث التحرر من أقوال العلماء وتقليدهم وتقديسهم على حساب النص، فهي بعكس المذهبية التي تجعل من التلميذ نسخة من شيخه وظلاله وصدى لأقواله، المذهبية هي أن ترى الكتاب والسنة من خلال نافذة شيخك واستاذك الضيقة، أما السلفية فهي أن تتجاوز هذا الشيخ والاستاذ وتتفوق عليه وتمارس التنافس، معه نحو آفاق الكتاب والسنة الرحبة، وهو ما يميز الأئمة المجددين امثال أحمد والشافعي وابن تيمية وابن عبدالوهاب وابن باز والألباني وابن عثيمين وغيرهم، فهؤلاء لم يكتفوا بترديد ما سبقهم، بل تجاوزه وتحرروا بالنص من أقوال من سبقهم، وبهذا يبقى الدين جديدا وطريا كيوم أنزل، وبدلا من ان يتفرقوا حول الجداول، يشربون ويتحدون حول النبع - الأصل، الصحابة رضي الله عنهم اول من مارس السلفية، فقد كانوا يقومون ويقيمون ممارسات التابعين ويوسعون آفاقهم بالنص كلما ظهرت منهم بوادر التشدد والانغلاق، قال التابعي مجاهد (كنا جلوسا عند عبدالله بن عمرو بن العاص وغلامه يسلخ شاة فقال: يا غلام اذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي. حتى قالها ثلاثا، فقال رجل من القوم كم تذكر اليهودي أصلحك الله؟! قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوصي بالجار حتى ظننا او رأينا انه سيورثه - شعب الإيمان 7- 85) ويقول التابعي سالم بن عبدالله بن عمر ان والده قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تمنعوا نساءكم المساجد اذا استأذنكم اليها، فقال بلال بن عبدالله والله لنمنعهن، فأقبل عليه عبدالله فسبه سبا سيئا وقال: اخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن - مسلم)، عندما ظهر الخوارج المتشددون مدعين انهم اكثر غيرة على الدين من الصحابة حاورهم ابن عباس بالنص فرجع أكثر من ثلاثة أرباعهم، وبهذا استضاء الصحابة بالنص واضاءوا غيرهم به، ولم يطلبوا من غيرهم أن يقلدهم. لكن ما موقف السلفية من الشأن الدنيوي صناعة وزراعة وتقنية وابتكارا واكتشافا واختراعا!؟ السلفية عكس ما سبق تماما في هذا الشأن، فهي التجديد والانطلاق بلا حدود، والبحث والاكتشاف دون سقف او توقف، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنتم أعلم بأمور دنياكم) قالها بعد ان أخفقت نصيحته في أمر دنيوي لا خبرة له فيه، وهو تلقيح النخل، في الطب مثلا يقول عليه السلام لنا: (ما أنزل الله داء الا قد انزل له شفاء علمه من علمه وجهله من جهله - أحمد 1- 377) فهل هناك أكثر تحريضا ودفعا نحو الاكتشافات الطبية والتفوق فيها والتعمق في بحوثها من نبي يصيح بأمته انه لا مستحيل في الطب، وان كل مرض له علاج ومهمة الإنسان هي اكتشافه، وهل هناك أقسى من وصف النبي صلى الله عليه وسلم للقصور الطبي بأنه جهل.. ما تمارسه الأمة اليوم هو عكس هذه السلفية البيضاء، الأمة الاسلامية اليوم تكثر من التكاليف الدينية التي لا أصل لها، وتبني الكثير من الجدران والمحرمات دون أدلة، وتخترع كثيرا من الطقوس والشعائر دون أدلة، في الوقت الذي تمارس فيه أشد أنواع التخلف والنكوص في الصناعة والزراعة والتقنية والمساهمة في الحضارة ببعدها عن هديه عليه السلام، وكأنها تقول له: (بل نحن أكثر الناس ابتداعا في أمور الدين، وأجهل الناس بأمور دنيانا وأقلهم إبداعا) أليس واقعنا كذلك؟