يعاني الخطاب التقليدي من تخمة دغمائية - هي من أبرز سماته -؛ جراء تحويله جميع عناصر خطابه - حتى الهامشي والدعائي منها - إلى يقينيات صلبة، لا تحتمل تعدد الرؤى، ولا تسمح بمساحات حوارية، إلا لتأكيد المؤكد، وتثبيت الثابت، وهي مؤكدات وثوابت لا وجود لها - كمؤكدات وثوابت - إلا في هذا الخطاب، بينما هي في الخطابات الأخرى، مجرد أفكار ورؤى وتصورات، ذات أبعاد نسبية، لا يترتب على انتزاعها من المتن اليقيني، ووضعها في الهامش الظني، أي حكم بالإقصاء من دوائر الإيمان . أنا - هنا - لا أتحدث عن اليقينيات العقائدية، التي هي محل اتفاق إيماني، بين أبناء العقيدة الواحدة، من تقليديين وغير تقليديين . فهذه المفردات الإيمانية هي من مقتضيات الإيمان، التي يتفق عليها أبناء الدين الواحد، أو أبناء المذهب الواحد؛ مهما تعددت زوايا الرؤية لديهم؛ ومهما كان موقفهم من التقليد - كآلية معرفية ! - إيجابا أو سلبا . فحديثي - إذن - ليس تشكيكا في اليقيني الإيماني، وإنما هو محاولة لفضح صناعة : أوهام اليقين . لكن، لماذا يعمد خطاب التقليد إلى نقل الأغلبية الساحقة من مفرداته التصورية الخاصة إلى المتن اليقيني ؟ . طبيعي أن للبنية الذهنية المنغلقة دورا مركزيا في هذا النمط من السلوك الفكروي في الخطاب التقليدي . لكن - قبل هذا - ماذا عن دور الأدلجة؛ كآلية سلطوية، تبحث عن مناطق نفوذ لها في الحراك الاجتماعي ؟، وماذا يقدم لها اليقين في هذا المجال؟. بدهي أن مساحات الحوار مساحات غير سلطوية بالضرورة؛ وإلا فهي ليست مساحات حوار . إنها مساحات مشاركة ندية، يستحيل وجود التقليد فيها، من حيث هو ممارسة في الاتباع، وليس ممارسة في الإبداع . التقليدي غارق في بحيرة سلطوية، لا يتنفس إلا هواءها، ولا يتحدث إلا بلسانها . والحوار يستلزم خروجا أوليا من هذا الأسر السلطوي . ومن هنا، يتضح التضاد بين خطاب التقليد من جهة، وكل أشكال ومستويات الحوار من جهة أخرى . إن حضور اليقين - المكثف في الخطاب التقليدي - حضور ضروري في سياقه الحراكي في المجتمع . فتجاوزا عن كون اليقين في خطاب التقليد نابعا من بنيته الذهنية المنغلقة على نفسها، فاليقين - فيه - يتم استخدامه كسلاح حاسم في معركة الهيمنة الاجتماعية؛ لأنه سلاح يلغي الحوار، أي يلغي المشاركة الندية على مستوى الأذهان . ومن ثم، يفتح الأذهان على فراغ قابل لملئه بمقولات الهيمنة، التي هي - بالضرورة - مقولات رفعت إلى درجات اليقيني، بينما هي - حتى لدى منتجيها - لا تعدو كونها : أوهام يقين. خطاب التقليد يصنع أوهام اليقين، ولكنه يقدمها كيقين قطعي الثبوت والدلالة. وبقدر ما تكون أوهام اليقين من صناعة ذهنية مغلقة، تتصور كل ما يصدر عنها يقيني؛ بقدر ما يؤدي هذا الزخم الهائل من أوهام اليقين إلى تعزيز هذه الذهنية، ومنحها فرصة أكبر في الإنتاج والتأثير. هذه الأوهام تصنع المجتمعات السلطوية التي تلتهم الحريات، وتلغي الأفراد؛ لحساب تصورات الجماعة، ذات السمات اليقينية الثابتة الخالدة. وهذه المجتمعات التي فقدت التفرد - ومن ثم فقدت الإبداع - لا بد أن تنتج هذه الأوهام اليقينية؛ لتكون حصانة لها ضد الحوارات الندية، التي لا تقف إلا على أنقاض الطموحات السلطوية للخطاب التقليدي. البحث عن مجال سلطوي، هو بحث عن سلطة. والسلطة لا تنبني في الواقع إلا على أتباع. وبما أن الخطاب التقليدي خطاب يتغيا الوصول إلى الهيمنة السلطوية عبر طرائق فكرية؛ فلا بد أن تكون الأفكار التي يروّج لها أفكار اتباع؛ لتكون قادرة على صنع الأتباع. أما الإبداع - كفعل مضاد للاتباع - فلا يتخّلق إلا من ذهنية متمردة على الاتباع - التبعية، أي متمردة على كل أشكال التسلط الفكري، الممهد - بالضرورة - لتسلط اجتماعي إقصائي، ناف للمشاركة الذهنية، ومن ثم، ناف للمشاركة الاجتماعية، حتى على مستوى التعايش المدني، بل وفي مجالات المدني الخالص أيضا. لكن، حتى داخل خطاب التقليد والاتباع، يتم التمرد - أحيانا - من قبل الأتباع والمريدين الخانعين، على ما هو ظني وخلافي. ومع أن هذا تمرد فكري، أي على مستوى التجريد الذهني، وليس على مستوى الانقياد الاجتماعي لسلطة الرموز التقليدية؛ إلا أن الخطاب التقليدي يدرك أن هذا التمرد الذهني، لا بد أن يقود إلى نوع من التمرد على مستويات الهيمنة الاجتماعية، أي أنه ليس مجرد بحث عن هامش للحرية داخل منظومة التقليد، وإنما هو محاولة للبحث عن نوع من الانعتاق من أسر السلطة التقليدية التي تلغي كل مساحات الحرية لدى الأفراد - الأتباع. لا شيء يصيب التقليدية بالاضطراب، و- أحيانا - بالهلع والهياج؛ كبحث أتباعها عن مساحات الحرية؛ حتى ولو كانت هذه الحرية المنشودة من داخل دوائر التقليد. وهذا سر محاربة البعد الخلافي في مسائل الخلاف؛ لأنه لا يلغي الرأي التقليدي داخل تيار ما، وإنما يلغي - تبعا لذلك - هيمنة سلطوية، لا تجد حضورها الواقعي المتعين؛ إلا في إلغاء هذا الخلاف بشتى الوسائل، ولو عن طريق ترحيله - فيما لو تعذر إلغاؤه فكريا - إلى منطقة يمكن أن يطلق عليها - كما وصفتها في مقال سابق - : شرعية مع وقف التنفيذ. يصعب تطويع الأتباع - ومن ثم بناء مجالات سلطوية - دون إلغاء لمساحات الظني، التي هي الغالبة على معظم مفردات الخطاب التقليدي. الظني، فضلا عن كونه يؤثر على مستوى التعصب للمقولة التقليدية، يقود حرية ذهنية يصعب ترويضها، خاصة إذا كان الهدف هو الترويض الكامل والشامل؛ كما هو الهدف الحقيقي لخطاب التقليد. لا بد - في التصور التقليدي - من إلغاء الظني لحساب اليقيني، حتى يتم القضاء على أي مجال للحوار، حتى يكون الحماس في أعلى درجات، حتى للهامشي داخل هذا الخطاب. لا يخفى على المتابع للحراك التقليدي أن تفاصيل التفاصيل لديه، وهوامش الهوامش على مقولاته، أصبحت يقينيات قطعية، تنفي أي إمكانية للحوار بشأنها. يعي التقليدي أن جماهير الأتباع - التي يمارس هيمنته الاجتماعية من خلالها - لا تتجمهر وتتعصب على الظنيات، وإنما تفور حماستها، وتصل حد الهياج الأرعن؛ عندما يتم تحريكها بواسطة اليقينيات. ولهذا، يسعى الخطاب التقليدي إلى رفع الظنيات (وأكثر الظنيات هي مفردات ذات علاقة بالواقع المتغير، فهي مفردات ناتجة عن اجتهاد بشري، وهذا الواقع المتغير، ومن ثم، الظني، هو - في الوقت نفسه - ميدان ممارسة التقليدي لهيمنته الاجتماعية) إلى مستوى اليقينيات؛ حتى يتمكن من الهيمنة - بقوة اليقين - على الأتباع، ومن ثم، على سلوكهم الاجتماعي. يمكنك أن ترى حجم اليقينيات في مفردات الخطاب التقليدي ذات العلاقة بالواقع المتعين. هذه اليقينيات الموهومة، يعي كل أحد - ولو بأدنى تأمل - أنها ليست من اليقيني الثابت أصلا؛ حتى في منظومة التقليد، وإنما هي من مسائل الاجتهاد النظري، الصادرة عن أناس بسطاء متواضعي القدرات والجهود. مجرد ظنون، ورؤى حماسة، يتم رفعها إلى درجة اليقين، بعبارات عائمة، من مثل : "هل ينكر هذا مؤمن ؟ "، أو "هل يستسيغ هذا أصحاب الفطر السليمة ؟ "، أو "يعرف هذا جميع العقلاء " .إلخ، هذه العبارات التي لم تتحدد فيها هوية الإيمان، ولا هوية الفطر السليمة !، ولا هوية العقل، تصبح بمثابة دليل قطعي يقيني، يحشد الأتباع، ويملؤهم باليقين الموهوم بصوابية جميع مكونات خطاب التقليد. وليزيد الخطاب التقليدي من جرعات اليقين الموهوم لدى أتباع البسطاء، لا يعمد - حتى محاولته تفنيد مقولات خصومه - إلى حوارها، أو نقض منطقها الاستدلالي، وإنما يقدمها - منذ البداية - على أنها : (شبهات)، وأن مهمته كشف هذه الشبهات. إنه يصورها لدى أتباعه، لا على أنها آراء اجتهادية لم تحظ بالمقدار اللازم من الصواب، وإنما على أساس أنها شبهات خصوم (آخرين) متآمرين على تدمير (الأنا)؛ ليتم الإيحاء بوجود حالة : غزو. والإيحاء بهذه الحالة لجماهير الأتباع، يؤدي بها إلى الانتقال من السياق الفكري إلى السياق السيكولوجي؛ فتكون في حالة دفاع عن وجودها. وهي حالة تلغي كل مجال لتفعيل العقل؛ في مسائل فكرية، تستلزم الفعالية العقلية، ولو بالحدود الدنيا الموجودة في الجدليات المتواضعة داخل خطاب التقليد. تصبح كل مقولات المخالفين مجرد : (شبهات). فهي غير صائبة يقينا؛ حتى قبل نقاشها. وفي المقابل، كل مقولات التقليد صائبة يقينا، بمستوى اليقين بعدم صوابية الآخر. ومع أن مجرد كونها - في التوصيف التقليدي : (شبهات)، يعني - على الأقل - أنها تتضمن إمكانية اشتباه، أي إمكانية وجود للظني، حتى لدى الطرف المقابل، إلا أن الخطاب التقليدي يدمغها بأوصاف الخطأ المطلق؛ مع إقراره - في تناقض مصطلحي واضح - بأنها مجال ظنوني. وهو لا يفعل ذلك لمجرد تخطئة الآخر، وإنما لإدراج كل هذه الرؤى الظنية في سياق اليقيني المطلق داخل خطاب التقليد. فحتى تصبح مقولات الأنا يقينية الصواب، لا بد أن تكون الرؤى المخالفة يقينية الخطأ. ومن هنا، لا يصبح الجدال حول هذه الظنيات ممارسة معرفية، وإنما غزو بمنطق القوة، وبفرضيات اليقين الموهوم. إذن، فحتى عندما يدعو التقليدي للحوار، فهو لا يحاور من منطق الجدل الفكري، بل من منطق إرشاد الآخرين (الضالين !) إلى الصواب، ولهذا كثيرا ما تسمع التقليدي يقول : نحن لا نجادل، أو لا نحاور، إلا من لديه استعداد للاقتناع. والتقليدي هنا، على يقين تام من صوابية كل مقولاته، حتى تفاصيل التفاصيل منها، وعلى الآخر أن يقتنع بالحق الواضح الجلي لديه؛ بمجرد عرضه عليه؛ وإلا فهو معاند للحق الواضح (أوهام اليقين)، ومن هنا يفرق التقليدي بين الجدل الممدوح والجدل المذموم. فالأول : هو الجدل مع من هو مستعد للدخول في منظومة التقليد، ويجادل - ابتداء - بمنطق التقليد، أما الثاني : فهو الجدل الفكري العقلي، الذي يدخل إلى الحوار بذهنية المشاركة في صناعة الحقيقة، وليس في تلقيها جاهزة من أفواه سدنة التقليد.