هناك سبب وجيه دعاني إلى الكتابة في هذا الموضوع ليس لأن هذا الموضوع هو حديث الساعة في الوقت الحالي، ولكني أحببت أن يستوعب المواطن مفهوم هذه الأزمة المالية الأمريكية بل العالمية بتأثيراتها وبدايتها، وما تم وضعه من حلول لهذه الأزمة للخروج من عنق الزجاجة، وكيف يفكر ويمعن الاقتصاديون والساسة القائمون في الولاياتالمتحدة للخروج من أزمتهم المالية وما قد تتركه من تأثير على حركة الاقتصاد العالمي واحتمالية الأخذ بمفهوم النظام الإسلامي تدريجياً كبديل مثالي مناسب. بداية لنتعرف على من بدأ شرارة الأزمة المالية وانطلاقها رغم التنامي الاقتصادي المتواصل، هل هي البنوك أم أن المواطنين الأمريكيين هم السبب في اندلاع هذه الأزمة المالية التي وصل تأثيرها أرجاء العالم، لتوضيح ذلك وببساطة نعتبر المواطن أساساً إما موظفاً أو صاحب شركة أو يقوم بأعمال حركة ضمن مكونات الاقتصاد الأمريكي، انتشرت في أمريكا ظاهرة القروض العقارية بشكل كبير تمنح تلك القروض لأي متقدم مهما كان الراتب أو الدخل الشهري بهدف الحصول على غاية هي تحقيق فوائد مرتفعة، وهذه تعتبر مخاطرة للبنوك ولكنها في نفس الحال تلجأ إلى تأمين تلك القروض من قبل شركات التأمين، في ظل هذه الدوامة اللاعقلانية ارتفع سعر العقار في أمريكا ولجأ الموظف إلى عملية الرهن العقاري بهدف الحصول على سيولة أخرى، الموظف، أو «المواطن» أصبح لديه في هذه الحالة قرض عقاري ورهن عقاري، ينتظر البنك عملية السداد، تم التقصير في السداد، هنا فقدت السندات قيمتها، النتيجة انفرطت السلسلة الذهبية المتصلة.. أفلست البنوك الاستثمارية أما الذين اشتروا تأميناً على سنداتهم فإنهم حصلوا على قيمتها كاملة نتيجة ذلك، ولكن أغلب شركات التأمين المنتشرة خسرت بل البعض أفلست ومنها مثلاً شركة أميركان إنترناشيونال قروب العملاقة (AIG)، فعندما ضرب الفأس بالرأس بدأت البنوك في تخفيف عمليات الإقراض، مما أوقع أثراً في الصناعة بشكل مباشر، من هنا الصناعة بدأت تأخذ المسار العكسي، السيولة تخف إلى أدنى حد، كل ذلك أحدث نوعا من الركود ساد كلا من الصناعة والبنوك، الأزمة بدأت بهذا الشكل إلى أن أصبحت ظاهرة عالمية ليست أمريكية، نتيجتها بل سببها حتماً هو الاستثمار في الديون أو القروض التي أساسها فوائد عالية. تأثر النظام المالي العالمي من هذه الأزمة والقائم أساسه على مبدأ الفائدة والحرية المالية كحراك والأسس القائمة عليها الرأسمالية التي اكتسحت يوماً ما جميع الأنظمة السابقة بما في ذلك الاشتراكية المنافسة لها، فالنظام الرأسمالي من المعروف اقتصادياً قائم على عناصر الإنتاج، ففي الفكر الرأسمالي هناك أربعة عناصر مهمة، كل منها يتحصل على عائد (فائدة) نظير اشتراكه في العملية الإنتاجية: 1- المواد الخام يكون عائدها ريعاً، وهو عائد إيجار الأرض أو ثمن المواد الخام، 2-عنصر العمل يكون عائده أجراً، 3-عنصر المنظم يكون عائده ربحاً، 4-رأس المال فيكون عائده فائدة والفائدة هذه في شريعتنا الإسلامية تسمى «الربا». إذن النظام المالي الرأسمالي نظام قائم على الفائدة وهذا بحد ذاته تحددها مقتضيات العملية الاقتصادية ودورتها فلا يوجد تدخل من الدولة في هذا الشأن وتحديد الفائدة تركت لعملية العرض والطلب، فتحديدها من اختصاص القطاعات الخاصة، وهذه القطاعات الخاصة المؤثرة في الاقتصاد متمثلة في البنوك وشركات التأمين التي تتقاضى بحرية فوائد تراكمية عن طريق تدوير مكونات رأس المال بالفوائد المحددة الدفع تجاوزت العمر الافتراضي في تحريكها للعشر سنوات المقدرة فعندما توقفت عملية الدفع عند آخر عملية ربوية ناهز عمرها العشر سنوات القادمة انتهت دورة رأس المال التراكمي كله عند تعثر استرداده أو انتهائه. من هنا بدأت تنهار مؤسسات الرأسمالية أو محركات الاقتصاد والسبب «عدم وجود سيولة»، وبعلم الاقتصاد يعتبر ما يحصل هو «انهيار الرأسمالية التقليدية»، وبداية قيام «رأسمالية الدولة» فعلي الساحة المالية العالمية القائمة كأنما ما يحصل الآن هو تعجيل مسبوق للقضاء على الرأسمالية التقليدية وإرجاع الذهنية لما حل بسابقتها الاشتراكية فبدخول الدولة في الشأن المالي الحر القائم على مفهوم الرأسمالية هو دعوة صريحة إلى قيام النظام الاقتصادي المختلط (Mixed System) وهذا المتبع في نظامنا الإسلامي، من هنا على الحكومة الأمريكية خيارات منها: (1) فقدان الثقة في النظام المالي أو المصرفي القائم وقبول انهيار وإفلاس تلك المؤسسات المالية العملاقة وإنشاء البديل بالكم لا بالكيف من المؤسسات المالية الجديدة وسياسة الاندماجات والاستحواذ وبالتالي تتحمل تلك الانهيارات من عدم توفر سيولة مالية كافية في الأسواق وربما بعمومه وما ينجم عن ذلك من فوضى اقتصادية «بل قاصمة الظهر لهذه الرأسمالية» التي يتباهون بها والتي تقبل بحرية تكديس الأموال في جيوب أولئك المرابين من أصحاب تلك المؤسسات المالية والذي يعتبر الأمر مقبولاً وصحيحاً ضمن الدورة الاقتصادية الرأسمالية وبالتالي يكون أمر إفلاسهم وانهيار مؤسساتهم المالية هو أيضاً أمراً مقبولاً. (2) «تدخل الدولة» يعتبر بوابة دخول إلى «النظام المختلط» واندثار الرأسمالية التقليدية وبالتالي المؤسسات تصبح خاضعة للدولة والتي ستتمثل بالدعم المادي «السيولة النقدية» لحل مشكلة المرابين التي أحرقت رؤوس أموالهم نتيجة توقف آخر عملية تدوير ناجحة مصرفياً لرأس المال عند آخر مقترض وآخر راهن عقار. أما بوادر الأزمة المالية العالمية على الدول الخليجية خاصة الدول ذات المحدودية في استخدام مشتقات الإقراض والرهنات المعقدة فلن تتأثر وقد يكون التأثير مرده اتجاهان الاتجاه الأول التأثير من خلال انخفاض أسعار النفط والعقارات والسلع الأخرى وهذا ما يحصل وسيحصل لاحقاً للأخرى في الآونة الأخيرة والاتجاه الآخر تأثر الأرصدة المستثمرة في البنوك الأمريكية وذلك لارتباط أسعار النفط بالدولار والمتأرجح في قيمته، فالمتوقع مع ضخ السيولة القادمة على شكل جرعات سوف يبقى تذبذب النزول قائماً للدولار نتيجة فقدان الثقة في النظام المالي الأمريكي. وبالموافقة على ضخ أكثر من سبعمائة مليار دولار لإيقاف إشهار الإفلاسات المؤسسية العملاقة في أمريكا، وكذلك مليارات أخرى في أوروبا والمطالبة الدولية للوقوف في مواجهة هذه الأزمة المالية عالمية كما حصل في قمة الكبار (مجموعة العشرين) وبعضوية المملكة، هل يعيد إلى النظام المالي الرأسمالي قوته؟ ويبقى هذا هو السؤال المتبقي الذي سوف ستتضح نتائجه خلال الفترة القادمة فإما أزمة حقيقية ستطال آثارها المالية قلاع الاقتصاديات الرأسمالية العالمية وانهيار مفصلي لا شكلي لنظام الرأسمالي وبروز النظام الإسلامي أم أن تلك أزمة عارضة سيتم القضاء عليها في مهدها. ٭ باحث في الإدارة والاقتصاد