عندما كتب آندرو كارنيجي في عام 1889مقالته الشهيرة "إنجيل الثروة". كان يقدم المبرر الاخلاقي لتركيز الثروة التي كانت الرأسمالية آنذاك تحث عليها، وكان يرى أن الثروات الشخصية العظيمة لابد وأن تؤدي الى حضارات عظيمة. وتستند فكرة "إنجيل الثروة" الأساسية الى أن المنافسة في عالم التجارة والأعمال تفضي الى "بقاء الأصلح" والأصلح هنا هم أولئك الذين يتمتعون بأكبر قدر من "موهبة التنظيم". ويقول كارنيجي إن هؤلاء الذين تزدهر أعمالهم ويكتسبون ثروات شخصية ضخمة هم الأفضل في الحكم على الكيفية التي يعمل بها العالم، وبالتالي فهم الأفضل تأهيلاً لتوجيه الموارد والاستثمارات. ربما كانت رؤية كارينجي صحيحة في زمنها وضمن ظروف بناء الاقتصاد الرأسمالي على اسس اقتصادات عينية تركز على قيمة الاصول وتدير عجلة الانتاج وتضخم عوائدها وتبني الثروات الكبيرة وتوفر فرص العمل وتعيد الاستثمار في دورات متتالية. لكن في ظل الازمة المالية العالمية الحالية هل مازالت تلك الطبقة من رجال الاعمال هي الاصلاح لقيادة النظام المالي، وهل هم من يقوى على بناء الثروات وتعظيم عوائدها وهل هي الاكثر تأهيلاً لتوجيه الموارد والاستثمارات. عالجت الرأسمالية الخلل الذي اصابها والازمات التي مرت بها خلال أكثر من قرن، وظلت تحمل "انجيل الثروة" على كاهلها باعتبارها المؤسس الكبير لبناء الثروة في عالم الرأسمالية. والدافع الكبير لصناعة مستقبل الحضارة والإنسانية. لكن ماذا عن التحولات التي اصابت العالم اليوم بعد الازمة المالية العالمية التي كشفت ان "انجيل الثروة" يحتاج اعادة قراءة في ظل تحولات عصفت بالاقتصاد العالمي واخرجته من دائرة طبقة صناع الثروات وفق مفهوم كارينجي الى عالم المدراء التنفيذيين للمؤسسات والشركات المالية التي ادخل شرهها للمال والارباح القصيرة الاجل والنظام المالي المعمول به الاقتصاد العالمي الى حالة من الخسائر الباهظة والافلاس والركود الطويل. يراهن الكثيرون من انصار الرأسمالية، على تجاوز الازمة المالية التي تعيشها اليوم، وهي لا تحتاج لانصار فالعالم اليوم خاضع لمفاهيم السوق وحرية السوق والشركات العابرة للقارات رغم انفه. سقطت الاشتراكية بنسختها السوفياتية نظراً لعجزها عن استعادة حيويتها وسقوطها تحت سنابك الاقتصاد المريض. لكن ايضاً لم تمت الاشتراكية العلمية في اوروبا التي مزجت بين متطلبات الرأسمالية وسوقها واقتصادياتها ومكتسبات الرعاية الاجتماعية. أنصار الرأسمالية يؤكدون اليوم على تجازوها لازمتها، فقد شهد النظام الرأسمالي طيلة المائتي سنة الماضية من عمره، سلسلة أزمات دورية كان يخرج منها دوماً، ليس فقط سالماً، بل أقوى؟ وهم يرون هذه الأزمات تعبيراً عن السر الكبير الذي يمنح النظام الرأسمالي طاقته الهائلة على التجدد والانبعاث. إلا ان ليس هناك شيء مؤكد على امكانية تجاوز هذه الازمة في نسختها المعولمة بسهولة. التغير الذي اصاب الاقتصاد العالمي وعولمة الاقتصاد وترابطه واحتوائه عبر الواجهة الامريكية لا يقدم أي مؤشرات على امكانية تجاوز هذه الازمة بسهولة. ظل النظام الرأسمالي عبر دورات اقتصادية متعاقبة وازمات متوالية يعاني من الركود والانتعاش فالركود والانتعاش.. إلا ان الازمة الحالية التي يشهدها الاقتصاد الامريكي الذي جر معه اقتصاديات العالم كله خلفه في سلسلة متوالية من التأثير التابع وليس التأثير المتبادل، قد لا يشبه الازمات السابقة في رأي كثير من المفكرين الاقتصاديين. أما لماذا لا يشبهها فلان الحقبة ما يسميها البعض بالنيو - ليبرالية التي بدأت من سبعينيات القرن الماضي والتي سمتها تلك التحولات التي مرت بها المراكز الرأسمالية الكبرى خاصة في الولاياتالمتحدةالامريكية، حيث انتقلت من الاسواق القومية الى الشكل الحالي الذي اجتاز القارات ونقل مراكز الصناعات وعظم صناعة اوراق المال والسندات واتاح الفرصة الكبيرة للاقراض عبر سلسلة طويلة من العمليات وتوظيف المشتقات المالية لخلق ارباح سريعة وخلال فترات قصيرة، حتى لو تجاوز أسس الاصول العينية الى درجة وصلت الى حجم الفقاعة التي انفجرت في وجه الجميع. بين انجيل الثروة الذي عظم دور صناع الثروات من رجال الاعمال والملاك من ذوي القدرات التنظيمية والابداعية الى دور رجال المصارف والطبقة المالية التي ادخلت العالم في مأزق أزمة مالية مازالت تبعاتها تتوالى ومازالت مؤشراتها الكارثية تهطل على العالم. يعود جزء كبير من الازمة المالية الحالية - كما يؤكد كثير من المحللين - الى ظاهرة سيطرة الطبقة المالية - المصرفية التي حولت الرأسمالية من نظام اقتصادي يستند الى قواعد تنظيمية واضحة، الى "فوضى" كازينو القمار الذي يقوم على مبدأ "المخاطرة الكبيرة لتحقيق الارباح الكبيرة". والخطورة اليوم انه لم يعد كازينو قمار قاصراً على المراكز المالية الرأسمالية الكبرى بل تعداه في ظل النظام المالي المعولم ليصبح هذا "كوكبياً"، أي يطال الكرة الأرضية كلها، وأزمته الراهنة تنذر بركود وكساد عالميين كبيرين. هل أرباب النظام الرأسمالي اليوم هي من الفئة مجدها انجيل الثروة او دعم حضورها في بناء الحضارة الرأسمالية.. هناك من يرى أن أرباب النظام الرأسمالي اليوم يتوقفون على أنهم "رأسماليون حقيقيون"، فهم يتشكلون الآن من التكنوقراطيين والبيروقراطيين والمدراء والموظفين، وقليل من هؤلاء يملكون أي اسهم في الشركات التي يديرونها، وربما كانت الاسهم الوحيدة التي يملكونها هي تلك التي يحصلون عليها مجاناً من الشركات أو عبر استعارة المال من هذه الشركات بدون فوائد. كل هذه الفئات لا تعتبر رأسمالية حقيقية، بل هي بيروقراطية كسولة وكبيرة ومكلفة، بل ان الباحث الاقتصادي الامريكي راستون سول جون، في دراسة "الديمقراطية والعولمة" لم يتورع بوصفها أنها اقرب ما تكون الى "دراكولا" مصاص الدماء، اذ هي تشتري الشركات الرأسمالية الحقيقية التي لها مالكون حقيقيون، الذين لديهم أسهم ويقومون بمخاطر مالية، وبعدها تبدأ هذه الفئات بمص دماء هذه الشركات. يعود جزء من الازمة المالية العالمية الحالية الى ادارة المؤسسات المالية التي يقوم عليها هؤلاء المدراء التنفيذيين من طبعة الرأسماليين في نسختها المعلومة التي تعظم فوائد القروض على حساب الملاءة المالية، ولذا لاغرابة ان توسعت بعض البنوك الاستثمارية في الاقراض اى ستين ضعفاً من حجم رؤوس اموالها. وهذه الزيادة الكبيرة في الاقتراض لا تعني سوى المزيد من المخاطر اذا تعرض بعض المدينين لمشكلة في السداد كما حدث بالنسبة لازمة الرهن العقاري. اما لماذا تتوسع هذه المؤسسات المالية في الاقراض والاقتراض عبر محافظها من القروض او ما يسمى بالمشتقات المالية فهو يعود الى ان هذا التوسع يعني المزيد من الارباح قصيرة الاجل، اما المخاطر الناجمة عن هذا التوسع في الاقراض فهي لا تهم مجالس الادارة في معظم هذه البنوك. حيث يتوقف عليها حجم مكافآت الإدارة، ومن هنا ظهرت أرباح مبالغ فيها ومكافآت مالية سخية لرؤساء البنوك، وهكذا أدى الاهتمام بالربح في المدة القصيرة الى تعريض النظام المالي للمخاطر في المدة الطويلة. محاولة فهم الازمة المالية العالمية الحالية، لا يعود فقط لطبيعة النظام المالي العالمي الحالي الذي يحتاج اعادة بناء جديد يعيد للرأسمالية المحافظة قدرتها على الصمود ومعالجة ازماتها، لكن أيضاً يمكن فهمه من خلال تلك العناصر التي تستفيد من هذه النظام لتركيز الثروات القصيرة الاجل وتحقيق مكاسب مؤقتة على حساب نظام لم يعد قاصراً على محيط المراكز الرأسمالية العالمية انه تجاوزها ليصبح عالمياً بامتياز. الدعوات التي خرجت على اثر ازمة "وول ستريت" باستعادة تبني النظام الاشتراكي، لم تخرج سوى من دول تعيش على هامش الازمة وليست لاعباً مهماً وكبيراً في الاقتصاد العالمي اليوم. انما ايضاً "دعه يعمل دعه يمر" لن تكون اليوم هي الشعار الأثير للنظام الرأسمالي، وهناك حديث كثير اليوم عن "دعه يعمل دعه يمر وأخضعه لنظام المراقبة" عين الدولة الرأسمالية وأجهزتها الرقابية، ليس من المستبعد ان تقدم حماية رأس المال على حرية السوق باجراءات ونظم رقابية تعالج عوامل نشوء هذه الكارثة ويحول دون كوارث جديدة قد تسقط النظام الرأسمالي برمته. من انجيل الثروة لكارينجي الذي قدم طبقة الرأسماليين الكبار لواجهة بناء النظام القادر على تعظيم عوائد الرأسمالية الى انجيل ثروة القرن الحادي والعشرين الذي قدم طبقة التكنوقراط والمدراء التنفيذيين والموظفين لواجهة الرأسمالية المعولمة التي أكلت حصاد الرأسمالية وجعلتها تستهلك القروض بدلاً من انتاج الثروة حتى وصلت الى ازمتها الحالية. السؤال الى مدى ساهمت قيادات تلك المؤسسات المالية من طبقة التكنوقراط والمدراء التنفيذيين - الذين لم يكن لهم دور كبير بصناعة الثروة الحقيقية - في اتخاذ قرارات استثمار عبر صناديق او محافظ ممولة من هذه البنوك او المؤسسات المالية او من مدخرات الافراد في خسائر باهظة ومكلفة. هل غاب صناع الثروات ليزدحم السوق بخبراء ادارة الثروات، الذين لم يحافظوا على اصول الثروة، ولم يحققوا بالذهنية التبعية لمراكز المال العالمية سوى مأزق تقديم المؤسسات المالية الى شفير الافلاس؟.