أصبحت الحرب معلنة بين (مافيا الاعشاب) و(مافيا الدواء).. مافيا الاعشاب تزعم انها الاحق بعلاج - كل الامراض - المستعصية منها، والعادية، ومافيا الدواء تؤكد انها الاجدر بعلاج هذه الأمراض، ولكنها لا تدعى الشفاء منها لما تفعل مافيا الاعشاب. ومافيا الاعشاب تقول انها تملك (المعجزات)، ولكنها تعتمد على الأحلام، والأوهام..؟. والمرضى يتعلقون بالاحلام، والأوهام الى ان تسقط فيعودون الى الواقع مسرعين لعل أطباء الدواء ينقذونهم مما سقطوا فيه. وتدور الآن المعارك بين مافيا الاعشاب، ومافيا الدواء.. مافيا الاعشاب تعتمد في معاركها على وسائل فضائية تملكها، او تستأجرها لعدة ساعات، وتستعرض (جهودها المضنية، وأفكارها الجبارة) في علاج، وشفاء العديد من الامراض المستعصية التي عجز الطب الحديث في علاجها، وتستعين في ذلك أحياناً - وليس في جميع الحالات - بشهود الزور الذين يحضرون للتصوير، ويدلون بشهاداتهم بعد ان شفوا تماماً من آلامهم، وأمراضهم، او انهم باتوا بالفعل على أبواب الشفاء نتيجة تناولهم وصفات عيادات الاعشاب، ومشتقاتها.. ومن يتابع بدقة (شهادات الزور) هذه يدرك (المسخرة الحقيقية) التي وصلت اليها هذه الحرب بين مافيا الاعشاب، ومافيا الدواء فلو كانت دكاكين الاعشاب هذه التي تظهر أمامنا على الشاشات الخاصة، او الشاشات المستأجرة تملك هذه المعجزات في الشفاء فان الملايين من سكان الارض سيندفعون نحوها، ولن تحتاج الى ثلاثة، او اربعة من شهور الزور يقومون بتلميعها، والدعاية لها، وإثبات نجاح وصفاتها، بل ان هذه الدكاكين التلفزيونية تستطيع وهي في مكانها ان تعلن عن (علاجاتها الخارقة) ليأتي اليها المرضى من انحاء العالم شرط إحالة اصحاب هذه الدكاكين للقضاء، والمحاكمة، والعقوبات الفورية اذا ثبت انهم دجالين، وهم حالياً اقرب لأعمال الدجل من أي شيء آخر..؟. ومافيا الدواء تعتمد في معاركها على جيوش من الاطباء يعملون على ترويج الدواء الحديث، وما يستجد فيه لعلاج أمراض البشر، وتضطر الى إرضاء قسم من الاطباء للترويج لهذا الدواء، او ذاك لكنها - في كل الأحوال - لا تزعم علاج كل الأمراض في أسبوع، او أسبوعين، أو شهر، او شهرين كما تزعم ذلك مافيا الاعشاب..؟. صيدليتان في صيدلية في عاصمة عربية رأيت منظراً عجيباً فقد كنت أسكن في عمارة تحتها صيدلية ثم بواسطة الحارس اكتشفت ان الصيدلية فوقها صيدلية. الصيدلية التي على الشارع تبيع الأدوية المعروفة يتصدرها صيدلي في الأمام وخلفه صيدلي آخر، الأول يقرأ (الروشتة) أو يسمع الشكوى من المريض أو المراجع والآخر يقوم باحضار الدواء أو تحضيره. الصيدلية العلوية التي يفصلها سقف متواضع عن الصيدلية الأرضية بها طبيب متخصص في الأعشاب، ومعه طبيب مساعد. الزبائن ينقسمون إلى قسمين: قسم يتعامل مع الصيدلية الأرضية وروشتة الطبيب ومعمل التحاليل وقسم يتعامل مع الأعشاب ومشتقاتها. يدخل الصيدلية الواحدة أربعة أشخاص اثنان يشتريان من الصيدلية الأرضية الأدوية المعروفة واثنان يصعدان الدرج للبحث عن الجديد في علم الأعشاب لشراء الأعشاب المناسبة لأمراضهم. سألت الصيدلي الأرض لماذا هذا التشكيل في الدواء فقال هذا علاج حديث وذاك علاج قديم جرى تحديثه وعلى المريض أو المراجع اختيار ما يناسبه من علاج. البروفيسور الجاهز! اصطحبني صديق إلى دكان طبيب أعشاب شهير في منطقة البلد لشراء وصفة علاجية لشقيقه المصاب بفيروس كبرى وقال لي انه يذهب مرغماً لاعتقاد أخيه وأسرته بإمكانية الشفاء من هذا المرض بواسطة هذه الوصفة العشبية الخارقة بعد ان أعياه التعب من علاج الأطباء في الداخل والخارج. في الطريق لدكان طبيب الأعشاب قال صديقي انه لم يحدث تحسن في حالة شقيقه وان الاصرار على شراء هذه الوصفة العشبية للمرة الثانية من قبل شقيقه وأسرته هو نوع من التعلق بالأمل كما الغريق الذي يتعلق بقشة. وأضاف ستشاهد في مدخل العيادة الدكانية كلمات وشهادات مكتوبة ومعلقة على الجدار تشيد بالطبيب الشعبي في علاج مختلف الأمراض. بأقل التكاليف، وأسهل السبل (علاج العقم، علاج الصدر، علاج البطن، علاج الرأس، علاج الظهر..). وستشاهد (يضيف صديقي) كيف تقدم الوصفة للمراجعين، المرضي... ينادي الطبيب الشعبي الشهير وهو واقف على قدميه بملابسه الرسمية: يا غلام.. هات وصفة الكبد، وبعدها مباشرة ينادي غلاماً ليحضر وصفة الصدر، أو البطن، أو الظهر... يقول صديقي ان كل الوصفات واحدة: قارورة كبيرة - مرطبان - بها عسل مخلوط باعشاب، أو أعشاب مخلوطة بعسل، ويقبض الثمن ( 250ريالاً كحد أدنى، و 500ريال كحد أعلى، ومدة استعمال الوصفة في حدود شهر واحد، بعدها يحضر المريض، أو مندوبه للوقوف على مراحل العلاج وإعادة صرف المرطبان)... فاتورة باهظة للدواء أوشك إستهلاكنا السنوي من الداء ان يقترب من ( 9مليارات ريال في عام 2008م... وهو - دون شك - رقم ضخم جداً بعد أن كان استهلاكنا من الدواء في عام 2004م - على سبيل المثال - لا يتجاوز خمسة مليارات، ونصف المليار ريال تقريباً ليتصاعد شيئاً فشيئاً بعد ذلك، ويقترب من التسعة مليارات ريال في عام 2008م، وكثرة الصيدليات - التي نافست في اعدادها، وأحجامها محلات المواد الغذائية - وكثرة المستشفيات، والمستوصفات، والعيادات تعكس رواج سوق الادوية، أو تجارة الأدوية لهذا المبلغ الضخم..؟ وهذا بدوره يعني ان عدد مستهلكي الدواء زادوا، وانهم يزيدون تلقائياً بفضل كثير من الاطباء الذين (يتفانون) في وصف الادوية للمرضى - من كل نوع - ويعود أطباء آخرون في وصف ادوية اخرى، وهكذا... ويضاف الى ذلك ان الامراض نفسها تزداد صيفاً، وشتاءً، وخريفاً، وربيعاً، ولا يجد المرضى أمامهم سوى الزحف نحو الأطباء (الذين يتفاوتون في المستوى، والنتيجة، كما يتفاوتون في التكاليف)... كثير منهم يعتمد على (الاجهزة الحديثة)... وقليل منهم يعتمد على الموهبة، والخبرة، ولا يقتنع كثير من المرضى إذا وصف له الطبيب دواءً واحداً، ويقتنع اذا تم مضاعفتها، ويسأم عندما يبدأ في تناولها حسب تعليمات الطبيب، وقد يهملها، وتتراكم الأدوية في أدراج الثلاجة، وأدراج الدولاب، ثم يتم (رميها في الزبالة)..! وما زلنا - حتى الآن - لم نسارع لتخفيف معاناة شراء الدواء لمحدودي الدخل بأن يتم (تجزئة العبوات) بالنسبة للأدوية الطارئة، وليس تلك الأدوية - الدائمة - التي تستنزف جيوب محدودي الدخل كما تستنزفها أقسام الأشعة، والتحليل، والتصوير، والتحويل من قسم لآخر، ومن طبيب لآخر، وكلها تبدأ، وتنتهي بفاتورة باهظة ترهق جيب أي مريض، وقد تزيد مرضه..؟ أين يستقر المرضى..؟ المرضى محتارون بين الاستمرار في علاج الطب الحديث، أو الانجراف وراء علاج الاحلام، والاوهام الطب الشعبي، أو طب الاعشاب... وتبلغ الحيرة مداها حين تظهر في الصحف، أو الفضائيات، أو تخرج شائعات من هنا، وهناك عن معجزات خارقة يحملها الطب الشعبي على يد اشخاص يدعون علاج جميع الامراض المستعصية المعروفة، وغير المعروفة خلال عدة اسابيع، وليس عدة شهور فيندفع المرضى، وأقاربهم، ومعارفهم إلى هؤلاء الأشخاص من كل (حدب، وصوب) بعد أن فتحت أمامهم أبواب الأمل، وتمضي الأسابيع وتلحقها الشهور، ولا شيء يتحقق من (الوعود البراقة) سوى تدهور حالة المريض، وانتكاسته (نفسياً، واسرياً) فيعود الى احضان الطب الحديث وصيدلية الادوية، وقد تكون العودة بعد فوات الأوان..؟ والطب الشعبي هو صاحب السبق في العلاج، والطبيب العربي - القديم - هو صاحب المبادرة في التشخيص عن قرب - مجرد إستخدام النظرات - إلى جانب استخدام اليد، والفراسة، ثم تكتب وصفة العلاج من الاعشاب وطريقة - تركيبها - وعند الضرورة القصوى يكون (الكي)..! ضاع الطب العربي القديم بعلمه، وفراسته وقيمته، وفائدته، وظهر طب عربي مزيف يصف لك أعشاباً من الكتاب، ووصفات من الخيال، ويعدك وأنت جالس، أو واقف بالشفاء من كل داء (في اسبوع، في شهر، في ثلاثة أشهر)... وتتراقص أساطير الشفاء أمام عينيك، وتتغلغل في وجدانك، وتظل تعيش (عدة أسابيع) على هذه الآمال، والاحلام والأوهام حتى تسقط على رأسك..؟ وتاه الطب الحديث بكل (جبروته) بسبب كثرة الاجتهادات، والوصفات، والاختبارات، والتجارب، وبسبب حرص، ورغبة كثير من المشتغلين به على تحسين حاضرهم، وتأمين مستقبلهم، والتنازل عن (ضمائرهم)... بينما بقي عدد منهم صامداً، متمسكاً باخلاق المهنة، وانسانيتها، واخلاصها، والعمل على تخفيف آلام المرضى يساعدهم على مهمتهم (الموهبة، والخبرة) وخوف الله أولاً، وأخيراً..!