لو أردت أن تطلق على الانتخابات الأمريكية الجارية عنواناً لما وجدت أقرب من هذا العنوان لأنه يلخص بصورة ما الأجواء التي واكبت هذه الانتخابات الطويلة والمرهقة في آن واحد. ولعل كثيراً من معلقي السياسة الأمريكيين وجدوا في حكاية "السباك" جو، الذي طغى على المناظرة الرئاسية الثالثة، تجسيدا لمعنى هذه الانتخابات أكثر من أي شيء آخر. فالسباك البسيط الذي اعترض طريق المرشح الديمقراطي باراك أوباما، وسأله عن برنامجه الضريبي والحلم الأمريكي، تحول إلى أيقونة سياسية بين يوم وليلة. وإذا ما فاز أحد المرشحين الرئاسيين، فإن فوزه قد يعزى لتأثير هذا السباك على سباق الرئاسة. انتخابات 1988اشتهرت بكلمة الرئيس جورج بوش - الأب - : (اقرأوا شفتي لا ضرائب)، فيما ذهبت عبارة الرئيس بيل كلينتون (إنه الاقتصاد يا غبي) مثلا لانتخابات 1992وما بعدها. وربما يتذكر الكثيرون كيف استطاع الرئيس بوش - الابن - إحراج المرشح الديمقراطي آل غور المعتد بنفسه حينما قال له (يا سيدي أنت لم تخترع الإنترنت)، وكيف تحولت تلك المناظرة الشهيرة إلى خطاب تشهير بشخصية آل غور المترفعة والمعزولة عن هموم الناخب الأمريكي البسيط. اليوم، يعيد التاريخ نفسه ولكن بطريقة عكسية، حيث أراد المرشح الجمهوري جون ماكين أن يضرب خصمه عبر نموذج السباك الأمريكي البسيط المتشكك ببرامج أوباما الضريبية، ولكن النتيجة كانت عكسية، فحين اتهم ماكين خصمه بأنه ينوي رفع ضرائب جو السباك، كان رد أوباما قاضيا : (يا جو سنرفع ضرائبك بمقدار صفر). ارتبك ماكين، وربما أدرك متأخرا أن هجومه قد ارتد عليه. كثيرة هي موضوعات الرئاسة الأمريكية، وربما لم يسبق أن اجتمعت موضوعات كثيرة تحت سقف واحد كما اجتمعت في الانتخابات الأخيرة. فمراكز الاستطلاع قد أظهرت أن 22قضية تتم مناقشتها بشكل يومي في الحملات الانتخابية، لعل أبرزها الاقتصاد، والطاقة، والصحة، والأمن الوطني. كما أن هناك موضوعات سجال ثابتة بين الحزبين الكبيرين كصلاحيات الحكومة الفيدرالية اتساعا وانحسارا، والضمان الاجتماعي، والإجهاض، والهجرة، والتعليم، والأسلحة، والبيئة. وفي كل موضوع من موضوعات السجال الرئاسي تبرز عناوين أكثر تحديدا، ففي الاقتصاد هناك النمو، والبطالة، والضرائب، وعجز الموازنة، والأزمة المالية الطارئة، والرهون العقارية، واتفاقات التجارة الحرة. أيضا في مجال الأمن الوطني تبرز عناوين كثيرة كالإرهاب، والعراق، وأفغانستان، وكوبا، وأمن إسرائيل. وكذلك الأمر بالنسبة للصحة، وأبحاث الخلايا الجذعية، والتأمين الصحي. أمام هذه القضايا يصعب التمييز أيها أكثر أهمية، وتعمل مؤسسات بحثية واستطلاعية عديدة لعمل مسوح رقمية لكافة هذه القضايا، وقياس حجم أهميتها وتأثيرها بالنسبة للناخبين. قد يكون هذا الكلام مكررا، ولكن أجدني مضطرا للتذكير به لدينا هنا في المنطقة، حيث احتل لون المرشح الديمقراطي أهمية - أكبر من أهميتها في الداخل الأمريكي -، فقد كُتب الكثير في الصحافة العربية عن مسألة "العرق" باعتبارها أم المسائل المحددة لمصير الانتخابات الأمريكية، ولا أدري على أي أساس - علمي أو تجريبي - يبني بعض الكتاب العرب - وكذلك بعض السياسيين - رؤيتهم هذه للانتخابات الأمريكية. لدي قناعة أن الكثير منا، حتى أولئك الذين عركتهم السياسة لعقود وربما عاشوا في أمريكا لبعض الوقت، لا يملكون رؤية صحية، أو واقعية لطبيعة المجتمع والسياسة الأمريكية الراهنة، بل يغلب لدى الكثيرين منا الأحكام المسبقة والتبسيطية لحال السياسة الأمريكية بما يتعارض مع الروح التجديدية والديناميكية الفريدة اللتين تتمتع بهما أمريكا. ليس هذا من باب التفضيل، أو الإغراق في مدح أمريكا، ولكنه أمر واقعي له مزاياه الحسنة والسلبية بالنسبة لمصالحنا. ولكن المهم، أن يتكون لدينا وعي صحيح نتمكن من خلاله تقييم التجربة، والاستعداد للسيناريوهات المحتلمة، بدل الركون إلى التفسير الساذج والمبسط لسياسة معقدة، يصعب على الأمريكيين أنفسهم شرحها للآخرين.. دعوني أضربء لكم بعض الأمثلة، في انتخابات 1992قلل أغلب السياسيين والكتاب العرب - وبإمكانك مراجعة أرشيف الصحافة العربية - من حظوظ فوز المرشح بيل كلينتون، لأنه شاب معدوم الخبرة، وحاكم ولاية هامشية، مقارنة برئيس ذي شعبية ونفوذ بالغ كبوش الأب، ولكن ماذا كانت النتيجة، حصد كلينتون 32ولاية و 370من أصوات الكلية الانتخابية في مقابل 18ولاية، و 168صوتا لبوش الأب. أيضا، في انتخابات 2004، قيل لنا (عربيا) إن شعبية الرئيس بوش في الحضيض، وإن فشله في العراق سيقضي عليه، ولكن ماذا كانت النتيجة، لقد حقق بوش انتصارا كاسحا فكسب 31ولاية، و 286من أصوات الكلية الانتخابية. مشكلة الكتّاب العرب هي أنهم يطلقون تكهنات بخصوص الانتخابات الأمريكية، ويجعلون من ظنونهم حقائق راسخة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء متابعة الانتخابات الأمريكية بعين متجردة، وبشكل محترف كما يفعل نظراؤهم من المعلقين الأجانب.. حين بدأت الانتخابات التمهيدية قال لنا الكثير من الكتاب العرب إن مرشحاً أسودَ لا يمكن أن يفوز، حتى قال أحدهم: (بأنه إذا فاز أوباما فإنه لا يفهم شيئا في السياسة الأمريكية). اليوم، وبعد أن تبين لنا تقدم أوباما الكبير على منافسه عدل الكثيرون من موقفهم، فقالوا إنه على الأرجح لن يفوز، ولكنه وإن فاز سيفوز بفارق ضئيل. لا أدري - حقيقة - من أين يأتي كثير من كتاب المنطقة بآرائهم هذه، فهم يطلقون أحكاما وأوصافا، وكأنهم خبراء ممارسون للتجربة لا معلقون من الخارج. يخيل إليك - أحيانا - أنهم يدّعون فهم أمريكا أكثر من الأمريكيين أنفسهم. عندي لهؤلاء أخبار سيئة. هذه الانتخابات ستفاجئهم، ففي الوقت الذي ظنوا أنهم يفهمون الشخصية الأمريكية، ناهيك عن مجتمعها وسياستها الداخلية، ويرمونها بالتعصب العرقي والتمييز، هاهم الأمريكيون يضربون نموذجا - جديرا بالتقدير - في قدرتهم على التسامح الحضاري، بل وتقديم المصلحة الوطنية على العرق واللون والدين. ليس هذا ذما في ماكين، فهو رجل دولة مخضرم، وربما لو كانت غير هذه الانتخابات اليوم لكان الأجدر بالفوز، ولكن بعبارات - الوزير الجمهوري الأسبق كولن بول - : (المرحلة تتطلب تغييرا يتجاوز مكانة جون ماكين كبطل ورمز أمريكي.. أمريكا بحاجة إلى تغيير من جيل إلى جيل آخر)، لست أقلل من تأثير العامل العرقي، ولكن ينبغي علينا أن نكون واقعيين ومهنيين حين نتعامل معه، في آخر استطلاع وطني أجرته غالوب ( 16أكتوبر)، تبين أن التصويت في هذه الانتخابات على أساس العرق بالنسبة للناخبين البيض لا يتجاوز 4بالمائة فقط، بينما لا يتجاوز عدد الذين يصوتون على أساس الدين 14بالمائة، في المقابل، يظهر آخر استطلاع أجرته السي بي إس بالاشتراك مع جريدة النيويورك تايمز ( 13أكتوبر) أن 57بالمائة من الأمريكيين يعتبرون الاقتصاد المسألة الأولى التي ستحدد خيارهم الانتخابي، يلي ذلك الأمن الوطني 9بالمائة، ثم الصحة 8بالمائة، ثم الطاقة 7بالمائة، أما عدد الذين يعتبرون العرق مسألة حاسمة فلا يتجاوز عددهم 2بالمائة.. كما ترى، الاقتصاد وليس اللون يبدو المحدد الرئيسي لهذه الانتخابات، وفي هذه يتقدم أوباما على ماكين بفارق 11نقطة، ولهذا فإن نموذج جو السباك مهم ولعلي ألخص السبب: لقد أراد ماكين من مثال السباك أن يكرر نفس الانتقادات الجمهورية المعتادة ضد الديمقراطيين بوصفهم يرغبون بتوسيع دور الحكومة الفيدرالية وزيادة الضرائب على الناس، ولكن ما فات على مستشاري ماكين - كما يقول خصومهم - هو أنهم أيقظوا من حيث لا يشعرون مارد الامتعاض من الوضع الاقتصادي (الذي بلغ 75بالمائة عشية المناظرة الرئاسية)، وأظهروا أن مرشحهم لا يملك رؤية للأزمة الاقتصادية غير تثبيث الاقتطاع الضريبي لإدارة بوش - وشراء الرهون العقارية السيئة الصيت -، وبهذا تحول نموذج جو السباك العاجز عن شراء مكان عمله إلى رمز للسياسة الاقتصادية للجمهوريين في السنوات الثماني الأخيرة، هكذا تتم الانتخابات، وفق مصالح البلد وأولوياته الضرورية، وليس وفق العرق أو الدين أو المكانة الاجتماعية للمرء، طبعا، لو فاز أوباما، سيقول بعض كتّابنا العرب، إنه جاء كنتيجة حتمية لسنوات التمييز العنصري وعقدة الذنب الأمريكية، وسيقول البعض الآخر إنها مسرحية وجزء من مشروع مؤامراتي (خفي) لتحسين صورة أمريكا في العالم، لماذا لا يقرأون السياسة بشكل مهني كما يقرأها بقية خلق الله،