يرد الحديث عن الأصدقاء في كتب التراث العربي بعنوان (الإخوان) (باب ما جاء في الإخوان) فالصديق الوفي أخٌ لك لم تلده أمك. وفي المأثور الشعبي تعبير قريب من هذا وهو (الخوي) فيقول الرجل عن صديقه (خويي) وهي محرفة من (أخي).. وقد يقولون (رفيقي) وهي مشتقة من الحب والرفق المتبادل بين الأصدقاء، وفي الشعر الشعبي يكثر التعبير عن الصديق ب (الخوي). يقول الشاعر الشعبي علي بن سالم العازمي العتيبي من قصيدة جميلة: الخوي اللي ليا شان الزمان يخاوي خوّة اللي غير هذا ما اعتبرها خوّة و(خُوّة) هنا بمعنى (أُخوَّة) أي صداقة صادقة.. والإنسان اجتماعي بطبعه، ولعل اسم الإنسان مشتق من (الإنس) بالآخرين، فهو يضيق بالوحدة الطويلة، فهي تصيبه بالوحشة وتجعل صدره يضيق وتكثر عليه الهواجس والوساوس، فالحياة بدون أصدقاء صحراء جرداء، لا ماء فيها ولا شجر، ولا من يرد الصوت، ولا من يشارك في الأفراح، أو يساعد على النوائب، فإن الصديق يضرب أفراحك على اثنين، ويقسم أحزانك على اثنين، ويجعلك تفكر بصوت مرتفع، وهو مرآتك والوجه المألوف في حياتك والذي تبتسم بمجرد رؤيته، وهو الذي تفهمه.. ويفهمك.. وتضحكان معاً على طرُفَ ونكت معينة، فذوقكما متقارب، وقد جمعكما تاريخ من الصداقة، ومحبة راسخة بلا أنساب بينكما ولا مصالح تتبادلونها، فإن المصالح إذا دخلت بين الأصدقاء أفسدت الصداقة، فالصداقة هي زهرة الاجتماع البشري، والزهور تُحبُّ لذاتها وجمالها وتفردها وإنشراح الأرواح حين رؤيتها، وما الصداقة إلا زواج الأرواح، قال الشاعر العربي: لا شيء في الدنيا أَحَبُّ لناظري من منظر الخلاَّن والأصحاب وألذُّ موسيقى تسرُّ مسامعي صوتُ البشير بعودة الأحباب ويقول المتنبي: شرُّ البلاد بلادٌ لا صديق بها وشرُّ ما يكسب الإنسانُ ما يَصمُ وهو صادق، فإن الإنسان يشعر ببرد الوحدة وهو في محفل حاشد أو بلد كامل إذا لم يوجد معه صديق.. حتى في سفر الإنسان وحيداً يتمنى حين يرى أروع المظاهر أن معه صديقاً يشاركه الاستمتاع والإعجاب ويبادله الرأي والكلام ويساجله الذكريات في مستقبل الزمان. @ @ @ ومهما يسكن الإنسان في قصر متطاول البنيان، ولديه خير ومال، فإن هذا من دون أصدقاء يثير كآبته، قال الشاعر: إن البناء وإنء تطاول صَرءحُهُ دونَ الصحاب مفاوزٌ وَقَفارُ ومجالس الخلاَّن ما لم يكسُها صفو الإخاء فإنها أوزارُ ويرى فارس بن حمدان أن الصديق مهما أخطأ ينبغي حبه والحنو عليه: يجني الخليلُ فاستحلي جنايتَهُ حتى أَدُلَّ على عفوي وإحساني إذا خليلي لم تكثر إساءتُهُ فأين موضعُ إحساني وغفراني؟ يجني عليَّ واحنو صافحاً أبداً لا شيء أحسنُ من حان على جاني ولكن فارس بني حمدان لا يصطفي إلا خيار الرجال. يقول: إذا اصطفيت امرءاً فليكُنء شريفَ النجار زكيَّ الحَسَبء فَنَذءلُ الرجال كنذل النبا ت فلا للثمار ولا للءحَطَبء قلت: والأيامُ غربال.. فحتى لو خدع الكريم بصداقة لئيم فسرعان ما يفتضح الأمر ويتخلص الكريم من صاحبه على خير وإن أساء اللئيم، لأنه ليس من جنسه، وإنما يألف الإنسان إلى من يشاكله، بل والحيوان وكل ما فيه روح، يقول حميدان الشويعر: كلّ خدن بخدنه يطرب حتى الشَّبَث والعقرب وتروي قصة معروفة أن قوماً كثيرين نزلوا مدينة جديدة كبيرة كثيرة السكان، وتفرقوا فيها، وحين عادوا سئلوا عنها، فقال قومٌ: هي مدينة صلاح وتقوى، وقال آخرون: هي مدينة علم وثقافة، وقال البقية: هي مدينة لهو وفسق. ذلك أن كل قوم ذهبوا إلى ما يشتهون، وبحثوا عما يحبون، والمدن الكبيرة فيها كل شيء والحياة أكبر من أكبر المدن، لهذا تجد الكريم يصادق الكريم، واللئيم يحب اللئيم، والصالح لا يرضى بغير الصالح، أما الفاسق فلا يرافق إلا فاسقاً مثله في أغلب الأحوال والأمور، فإن الطيور على أشكالها تقع، غير أن هناك حالات قليلة قد يرافق (ولا نقول يصادق) الإنسان فيها نقيضه ليرى الوجه الآخر من الحياة أو يلبي رغبة مكبوتة في نفسه ولا يود تحقيقها فيكتفي بسماع سلوك الذي حققها، وقد يخدع الصالح بالطالح والكريم باللئيم إلى حين ولكن: كُلُ امرئ راجعٌ يوماً إلى شيمته وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حين @ @ @ قال عبيد بن رشيد: الحر يستالف على قرب الأوناس لا شك ما يستالف النسر والدِّيكء كذلك ينفر الحر من الود المتكلف من صديق أو حبيب و(لا يلحق المقفي أبداً) ومن الأبيات المشهورة في هذا المعنى وهي تنسب للإمام الشافعي ولا أعتقد ذلك: إذا المرء لا يرعاك إلا تكلُّفا فَدَعُهُ ولا تُكءثرء عليه التأسُّفا ففي الناس أبدالُ وفي الترك راحةء وفي القلب صبرٌ للحبيب ولو جفا فما كُلُّ ما تهواه يهواكَ قلبُهُ ولا كُلُّ من صافيتَهُ لك قد صفا إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة فلا خيرَ في وُدّ يجئُ تكلُّفا ولا خيرَ في خل يخون خليله ويلقاه من بعد المودة بالجفا وينكر عيشاً قد تقادمَ عهدُهُ ويُظهرُ سرّاً كان بالأمس قد خَفَا سلامٌ على الدنيا إذا لم يكُنء بها صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد مُنءصفا