لم يكن ينقص تعليمنا سوى تلك الأزمة التي عاشها كثير من خريجي المرحلة الثانوية وآباؤهم خلال هذا الصيف فلم تعد معدلات التخرج تعني شيئا لتعليمنا الذي يبدو أننا نسلمه شيئا فشيئا لاختبار القياس وكذلك الاختبار التحصيلي. إذا كان لابد من هذا الاختبار فمن الأولى أن تستبدل بعض المواد المتضخمة في مدارسنا بمادة تدرّس اختبار القياس والتقويم والاختبار التحصيلي على الأقل في المرحلة الثانوية. أنا لست ضد اختبار القياس أو الاختبار التحصيلي ولكني ضد هدر الوقت والجهد وسلب شخصية المدارس ومعلميها وجعل انتباه الطالب وأسرته لمدرب في مركز تدريبي يدرّس الاختبار التحصيلي أو القياس أهم من متابعة أستاذ مادة الرياضيات في الصف الثالث ثانوي. الجامعات وهي معذورة في أمرها لأنها ترى مالا نراه في مستويات الطلاب قد أصبحت تعادل جهد الطالب لمدة اثنتي عشرة سنة بعشرين بالمائة فقط من مجموع متطلباتها التي تقسم بين الاختبار التحصيلي واختبار القياس. لم تعد المدرسة تعني شيئا لأبنائنا الطلاب ولا للآباء ولم يكن ينقص مدارسنا سوى هذه القشة التي ذهبت بالمدرسة إلى حيث لا عودة بعدما انتزعنا منها آخر معاقلها ألا وهو المعدل التراكمي. ها نحن نفتح الباب على مصراعيه لتعليم مدفوع الثمن بعدما كنا نفخر بان تعليمنا بجميع مراحله مجاني ها نحن نفتح بابا للمعاهد والمستفيدين ليقدموا لنا الدروس والدورات في اختبار القياس والاختبار التحصيلي بمقابل مادي ولن يتردد المجتمع عن الدفع فهي أملنا الوحيد لقبول أبنائنا في الجامعات مستقبلا وليس ما تقدمه المدارس لهم. هذه الأزمة تطرح أمامنا سؤالا مهما حول مستقبل تعليمنا وخصوصا الثانوي منه..؟، الذي لا يفهم مجتمعاتنا يعتقد انه بالإمكان أن نقوم بنقل تجارب الدول إلينا وهذا ممكن ولكنه؛ يجوز ويمكن حدوثه في كل مجالات الدنيا إلا في مجال التعليم ولعلي اطرح هنا مثالا بسيطا يوضح إصراري على أن تجارب الدنيا يمكن نقلها بحذافيرها إلا تجربة فلسفة التعليم وسياساته. العالم العربي استطاع أن ينقل إليه كل تقنية ممكنة وقام بتبنيها في المجتمع ولكن ظل التعليم في كل الدول العربية بوجه خاص غير قادر على التقدم خطوة إلى الأمام. السبب الرئيس في ذلك يكمن في كون التعليم ذا علاقة متينة بالثقافة بل هو انعكاس لثقافة المجتمع وبنفس الوقت هو أداة تطوير هذه الثقافة، هذا ما يجعل مهمة تطوير التعليم مهمة معقدة لا تحل بتدريب معلم أو توفير جهاز حاسوب لكل طالب؛ القضية اكبر من ذلك بكثير. تطوير التعليم هو تطوير لثقافة المجتمع مما يعني ضرورة اكتشاف خريطة (جينية) لثقافة المجتمع كما هي الخريطة الجينية للبشر، بمعنى آخر أن ندرك الجينات الثقافية التي تتحكم في المجتمع ومن هذه الخريطة يتم الوقوف على أمراض الثقافة المجتمعية ومن ثم معالجتها تدريجيا. إذا أردنا تطوير التعليم ولم نبدأ بسؤال حول قيم المجتمع ومكوناته الفكرية فلن ننجح في تقديم فكرة التطوير. القضية ليست فصلا دراسيا لونه اصفر مع طاولات لونها اخضر ومحمول من إنتاج شركة يابانية أو غربية، المشكلة عندما تكون إمكاناتك المادية اكبر مما تحققه على الواقع مما يعني خللا في طريقة تنفيذ عمليات التطوير. عندما أتينا باختبار القياس إلى مدارسنا كنا نحاول مضاهاة اختبارات عالمية موجودة في ثقافات تختلف عنا ولم نغير من تلك الاختبارات سوى اللغة ولم نسأل أنفسنا عن السلبيات التي من الممكن أن تتركها هذه الاختبارات على تعليمنا وثقافته. نحن من الآن وصاعدا نتبنى ثقافة اختبار القياس والاختبار التحصيلي فالجامعات لدينا رفعت يدها من الاعتراف بمخرجاتنا فالطالب الذي يبذل والداه مالا من اجل إلحاقه بمعاهد التدريب المتخصصة في تدريس اختبار القياس والاختبار التحصيلي، سيكون له الحظ الأوفر من التعليم الجامعي أما من لا يستطيع أن يذهب إلى تلك المعاهد لظروف اقتصادية أو غيرها فلن يحتفل بالمعدلات المرتفعة التي يحصل عليها في التعليم العام وهي لاتسمن ولا تغني من جوع. هذه الاختبارات سوف توتر العلاقة مستقبلا بين التعليم العام والتعليم العالي بل أن هذه العلاقة يشوبها الكثير من التوتر حاليا فالجامعات انحازت لما تقدمه اختبارات القياس والتحصيلي على اعتبار أنها اختبارات تحت مظلة التعليم العالي. التعليم العالي يريد أن يطور أداءه على حساب التعليم العام وهو في النهاية مجبر على أن يقبل مخرجات التعليم العام مهما كان مستواها. إشكالية التعليم العالي والتعليم العام سوف تتفاقم مع مرور السنوات وخاصة إذا علمنا أن العام 2025م سوف يشهد ما يقارب من خمسة عشر مليون طالب وطالبة أعمارهم اقل من عشرين سنة موزعين على جميع مراحل التعليم العام بما في ذلك الروضة والتمهيدي وما دونهما. التعليم قضية أساسية وهذه الكلمة ليست للاستخدام الإعلامي فقط إنها تعني ضرورة النظر إلى التعليم كالنظر إلى الوطن وأمنه. من وجهة نظري في مجتمعاتنا يجب أن تقترب المساواة من حيث الاهتمام بين التعليم والأمن في الوطن إلى اقرب نقطة ولعل السبب في ذلك أن حصانة المجتمع الثقافية مهمة كما حصانته القانونية. التعليم العام يتعرض إلى أزمة علاقة بينه وبين منتجه النهائي وبنفس الوقت التعليم العام لا يساهم في تطوير ذاته ويفرض منهجية للتطوير بل إن بعض المؤشرات سلبية إلى حد كبير فلم يحدث في العالم كله أن يتم تقرير عودة الطلاب والمعلمين إلى المدرسة في نفس اليوم ونفس الساعة. المدارس ليست مؤسسات لتأدية الوظائف إنها مؤسسات بناء العقول البشرية وهذا يتطلب نوعا من الجهد والتحضير من قبل المعلمين وسوف تكون النتائج هذا العام وخيمة وسوف تدفع المؤسسات التعليمية وأبناؤنا ثمنا باهظا ووقتا طويلا لكي تنتظم الدراسة وتأخذ مسارها الطبيعي. لازلت اكرر أن التعليم قضية وطنية وتطوير التعليم يتطلب فهما للمجتمع وثقافته واستفادة حذرة من تجارب الآخرين. تعليمنا يمنحنا الكثير من المعلومات ولكننا لا نملك قدرات تفكير ومهارات ذاتية توازي ما نملكه من معلومات وهذا سر كثافة المعلومات لدينا في مقابل ضعف المهارات. ما نملكه من إمكانات مادية وبشرية لا يوازي قدراتنا التطويرية فلذلك نظل نعيد ونكرر نفس الآليات ونفس البرامج، نركز على المشاهد والمحسوس وننسى المعنوي من التطوير والذي سوف ينعكس على طلابنا. إذا أردنا تعليما حقيقا فعلينا التفكير في المجتمع وثقافته وهذا يتطلب أن نرسم المجتمع أمامنا في لوحة التطوير ونعيد الحسابات والأرقام فليس تغيير المكان هو التطوير. لابد أن نسأل الأسئلة المهمة حول تعليمنا وتطويره وهي كثيرة ولكن منها (لماذا نريد تعليمنا أن يتطور..؟) ماهي سياستنا التربوية التي نرغب في تطبيقها لتنفيذ استراتيجياتنا لتطوير التعليم...؟ ما هي علاقة ثقافتنا الحالية باتجاهات التعليم الحالية وكيف نريدها في توجيه تعليمنا مستقبلا..؟. أسئلة كثيرة ولكنها في النهاية تصب في فكرة تقول انه لا يمكن أن يحدث تطوير للتعليم دون سياسية واضحة لهذا التطوير وإستراتيجية مرسومة وفق أسس علمية واضحة.