لست أدري لماذا أحنّ الى بيتنا القديم؟ لست أدري لماذا أذهب إليه وقد تداعت أركانه وسقطت جدرانه ولم يبق من سقفه الا ذلك السعف والخشب البالي.. لست أدري لماذا هذا الخيط الرفيع الذي يجذب روحي ونفسي إليه.. أهي جينة الوقوف على الاطلال يتوارثها العربي كابرا عن كابر فأقف كما وقف امرؤ القيس على الدخول وحومل، أو كما وقف ذو الرمة على أطلال مي.. لست أدري ولكنني حين أذهب إليه أشعر بعبق خاص، ورائحة خاصة، وشفافية خاصة، أنسى نفسي وتظل روحي تهيم وتحوم في غرفه، وخلف أبوابه، أحس أن اسطحه ميادين فسيحة تنطلق فيها الروح على سجيتها، تقع هنا وتطير هناك، أتمنى أن أمد فراشي وأستلقي أراقب النجوم واستروح النسيم الذي يهب برائحة المزارع والنخيل وماء البرك.. أصغي إلى صوت مكائن الماء ونقيق الضفادع وضبح الثعالب في النخيل والشعاب، وكنت دائماً اسأل نفسي بإلحاح لماذا لم تأخذني أمكنة الدنيا الأخرى وهي أكثر اخضراراً وأكثر ماء، وأكثر خصوبة وجمالاً؟، طوفت أركان الدنيا، ورأيت أجمل البقاع وجلست فوق أصفى وأنقى البحيرات ومشيت فوق هامات الثلوج، ورايت حقول الورود والزهور الشاسعة، ومع هذا أحن إلى هذا البيت الطيني المتداعي الأركان وإلى تلك النخيل التي شاخت رؤوسها، هل هذه حماقة، هل هذه غفلة؟ أم أنها الألفة والحنين اللذان طبع عليهما بعض بني البشر ألم يقل المتنبي: خُلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا أم أن هذا الحنين ضرب من ضروب الفن الذي نمارسه ولا نعرف سره، هل هو سر الولادة، فهذا البيت هو مشيمة الروح التي تنفست أول ما تنفست رائحة أركانه وطينه وترابه، فظلت عالقة بها؟! هل هو سر الطفولة حيث درجت هناك، ولثغت الحرف هناك، واحتضنتني أمي هناك وحملني والدي على كتفه هناك، وشممت رائحة القهوة والعود، وغنيت أول ما غنيت هناك، ومارست فرح الأعياد هناك، أم هي الصورة حيث الوجوه المضيئة، والقلوب المضيئة، والحياة المضيئة رغم بساطتها، هل هي موسيقى الأرض حيث صوت النجر، وصوت غناء الفلاحين، وغناء الرعاة، وثغاء الماشية، وخرير الجداول ووحيف السيول، وهبوب الرياح تعصف بأعسب النخل، ووميض البرق، وصوت الرعد؟ هل هو صوت البلابل والعصافير ونوح الحمام؟ أم أنه الضوء حيث أول ما تشرق الشمس كانت ترسل خيوطها من خلال النوافذ الصغيرة في الغرفة التي كنا ننام فيها؟ أم هو ضوء القمر الحاني وهو يشع في كبد السماء في بهاء وحبور فوق هامات النخيل والسطوح وماء البرك حيث أرى وجهه.. رقراقاً متوهجاً؟، لست أدري ماسر فتنتي تلك، ولكني ما دخلت ذلك البيت ألوذ به وأخرج منه ومن البساتين حوله إلا تذكرت قول الجواهري في قريته حول دجلة: حييتُ سفحكِ عن بعد فحييني يا دجلة الخير يا أم البساتين أتيتُ نخلك ظمآناً ألوذ به لوذ الحمائم بين الماء والطين