لا أرتاح لصداقة متمكنة الثقافة والمكانة عندما تريد أن تجعلني بعضاً من آرائها ومواقفها، وفي الوقت نفسه لا أرتاح أيضاً لصداقة لها نفس التمكن لكنها تذوب في تبعية علاقة الرأي والود المشتركة بيننا.. المرحوم الأستاذ عبدالله الجفري جمعتني به عواطف ود كثيرة، ووصلتني بالكثير من آرائه ومواقفه قناعات كثيرة، لكن ذلك لم يمنع أن يكون لكل طرف منا جوانب استقلالية يختلف بها عن الآخر.. وفي هذا الصدد لا يريحني في مجال العمل من يكون رد فعله على أي ملاحظة لي ترديد "سم.. سم" فالأفضل عندي أن أسمع منه "اختلف مع رأيك.. وهذا رأيي أنا.." بالتأكيد ننتهي إلى التوافق على الرأي الأصلح.. مع الأسف أن المعيار الزمني ليس مقياساً لقدرة الكفاءة فهناك من تقودهم "سم.. سم" وهناك من هم كيفما طال بهم الزمن يحتاجون إلى الترشيد.. أصحاب الكفاءة هم من تأتي استقلالية رأيهم في زمنهم المبكر.. جمعتني بالأستاذ عبدالله الجفري مناسبات كثيرة منذ كنا في بدايات العمل، حيث قمنا بزيارات صحفية عديدة وكان وقتها - رحمه الله - متصلاً بالصحافة بالدرجة الأولى ويضم الوفد أسماء مختلفة ومتغيرة بين رحلة وأخرى، وفي جميعها لم يكن طرف خصومة مع أي أحد فيما كان البعض يشغلون وقتنا أحياناً بنزاعات لا تليق بممثلي صحافة.. ربما كان ذلك قبل ثلاثين عاماً.. بل كنت تلمس فرقاً شاسعاً بين رؤية شاعرية يستطلع بها - رحمه الله - ما يراه من جماليات مكان أو فنون أو ثقافات وبين ما يأتي به آخرون من احتواء ساذج لمفاهيم عند الآخرين، ولم تكن الشاعرية تقتصر على رؤيته لما يحيط به ولكنه حين يحاور يستحيل أن يستخدم عبارة قاسية ضد أي طرف ويتوالى تناغم الشاعرية فيما يتداوله مع أي طرف آخر من آراء.. اختلفت معه في الرؤية للشاعر نزار قباني لكن لم نصطدم بكلمة واحدة، بل لم يكن الأمر موضوع نقاش بيننا، كان هو معجباً جداً بشاعرية العبارة والتخيل عند نزار وكنت أنا معترضاً على المضمون.. قرأت وأنا في مرحلة الكفاءة الدراسية موضوعاً للناقد مارون عبود يقارن فيه بين عمر بن أبي ربيعة أول رائد شعر غزل متمكن ومتعدد الرؤية في التاريخ العربي وبين نزار.. هو يرى - وهذا صحيح - أن عمر بن أبي ربيعة هو أول شاعر عبّر عن تعلق المرأة به وليس تعلقه هو بها.. يجتمعان بهذا التوجه غير المألوف لكن ابن أبي ربيعة كان يتوقف عند حد أخلاقي لا يقبل أن ينزل بالمرأة إلى ما هو دون مستواه، في حين أن نزار نسج عباءته من شعر النساء وأقام أهراماً من الحلمات مثلما قال.. أعجب المرحوم عبدالله بشاعرية العبارة.. بالتكوين الفني الرائع للوحة الشعرية التي تتحرك بها المرأة كما في قصيدة نزار "مايا" حيث حمل أحد دواوينه هذا الاسم.. ومن هنا فجوانب الإعجاب - الفني - بقدرات نزار لا يستطيع أن ينكرها أحد، الأمر الذي أوجد علاقة الإعجاب المبررة جداً لكثيرين مع نزار وعبدالله الجفري النزيه سلوكاً والراقي أخلاقاً والمتمكن ثقافة هو في مقدمتهم.. رحمه الله..