رحل عبدالله عبدالرحمن جفري، برومثيوس حامل النار.. عبارة دوت في مكاتب الرياض - الجريدة - وكأنه لم تكفنا إحباطات العيد، وسأم العيد، وبلادة العيد، كان لابد أن يأتي خبر يزلزلنا، ويوجعنا، يدمينا، ويحرك السكين داخل الجرح، ويجعلنا نكتسي بالسواد، والوجع، والانكسار. رحل عبدالله عبدالرحمن جفري. لماذا اختار عبدالله أن يرحل عنا في أيام العيد، لماذا هذا التوقيت في المغادرة، ولماذا دون استئذان، ودون ابتسامة، ودون أن يلوح لنا مودعاً، وهو الذي عودنا الوفاء، والحب، واستنبات الورد ينثره تحايا لنا - نحن أصدقاءه - ويعطر به أجواء أمسياتنا، ويحيل الكلمة إلى عذوبة، ونشوة، وانتشاء، وينحتها شاعرية مموسقة رائعة، وكائناً متحركاً من الصدق، والمحبة، والتآلف، تسافر إلى تخوم الفرح، والدهشة. لتكون زاد حياتنا اللاهثة، ومحفزنا على مقاومة كل أشكال التلوث، والانهزام، والقبح في العلاقات البلاستيكية، والزيف والخداع والباطنية في التعاطي مع تفاصيل حياتنا. رحل صاحب القلب الكبير النقي الذي أدمن فعل الحب عطاء دون أن ينتظر أخذاً هو لا يستجديه، ولا يتوسله، ولا يغضب إذا لم يجده، عاش من أجل أن يزرع الحب في العلاقات، وفي القلوب، وفي الحياة، ويكرس مفاهيم التصالح مع النفس، والحياة، عبر قناعات بأن الحياة قصيرة جداً لا تستحق الخصومات، والعداوات، والتباعد، وأن للكلمة قدسية مهيبة يجب أن لا تمتهن لنرقى بها إلى مستويات فعل التقارب، والصفاء، والوفاء، والنبل. هكذا كان عبدالله عبدالرحمن جفري منذ أن عرفته، وتحولت المعرفة معه إلى صداقة قوية وعميقة ومعطاءة، منذ أن أصدر أولى مجموعاته القصصية "حياة جائعة".. وحتى آخر لقاءين رائعين معه في بيروت. كان اللقاء الأول في آخر لقاءين على دعوة كريمة من الصديق أبي عبدالله السديري، تركي عبدالله السديري في مطعم على الشاطئ الفينيقي ذات ليلة حالمة ورائعة وثرية بالحب. كان تركي، وعبدالله، وعلي حسون، وأنا نسبح في أجواء الكلمات المعطرة والمموسقة التي كان ينثرها عبدالله بسخاء وعذوبة، ونسافر في نقاشات لهموم الإنسان على هذه الجغرافيا الممتدة من المحيط إلى الخليج، وكيف يمكن أن ينعتق هذا الإنسان من هزائمه، وإحباطاته، وانكساراته، وأوجاعه، وكيف يمكن أن يواجه أقداره، ويعالج داءاته، وكان عبدالله متفائلاً بالحياة، والناس، والمصير. اللقاء الثاني كان في منزل السفير الشاعر عبدالعزيز خوجة، في الرملة البيضاء وعلى الشاطئ الفينيقي - أيضا - . كانت المناسبة تكريمية للجفري عبدالله عبدالرحمن، وكان هناك حشد من المثقفين، والأدباء، والشعراء، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، نادين فغالي، وكثير. استأذنت في بداية حفلة الشعر، والكلمة وقلت للكل: هذا هو عبدالله عبدالرحمن جفري، قامة في الأدب المحلي، والعربي، هو من جيل التأسيس في المملكة، نقل مفهوم العمود الصحافي في الصحافة المحلية من عمود تطرح فيه مشاكل الكهرباء، والأسفلت، وخدمات البلدية، إلى قضايا الإنسان، وهمومه، ومتاعبه، وأدخل الكلمة العذبة المنحوتة إلى لغة الصحافة، وجعل الكتابة الصحفية اليومية ثراءً فكرياً، ولغوياً، وحالة انتشاء بالجمال، وفعل معرفة، ووعي، وتنوير. وقلت: إن عبدالله يملك قلباً أبيض كالثلج، نقياً كحليب الأطفال، وانه برومثيوس حامل النار، ولابد أن يحرق كل الأوبئة، ويقضي على كل الممارسات المتدنية، والعاهات التي تحاصر الإنسان، والعبور من حالة الفعل السائد والنمطي والمقولب إلى مفهوم خاص للانعتاق والتجلي والعقل. وانتهى اللقاء، وكان آخر لقاء بالحبيب عبدالله وتعودنا في حالة الموت أن نفجع، وننكسر، ونصمت. أمام الموت لا نملك غير الصمت، والوجع، والتفتت. الموت حالة نشعر أمامها بكثير من الانهزام، والانكسار، والذهول. هو حقيقة مُرة وقاسية، ومدمرة تخطف كل علائقنا، وذكرياتنا (وما أكثر الذكريات مع عبدالله وأروعها) وحبنا، وأزماننا الجميلة. في حالة الحبيب عبدالله عبدالرحمن جفري تختلف الصورة تماما. سنظل نكتب، ونطرح عليه الأسئلة. - لماذا اخترت الرحيل..؟؟ - لماذا أخذت هذا القرار..؟؟ - لماذا في العيد، والعيد فقط..؟؟ - هل قلبك الكبير لم يعد يحتمل الجحود، والتشوه، والأحقاد عند الناس..؟؟ - هل الجفاف العاطفي، والتصحر في العلائق جعلاك تأخذ القرار..؟؟ ياعبدالله.. سيظل إرثك يفجر ينابيع الفرح، والحب نم - ياصديقي - قرير العين، والله معك. @@ هامش: "أليمة إلى اللقاء وتصبحوا بخير وكل أنواع الوداع مُرة والموت مُر وكل ما يسرق الإنسان من إنسان".