ربما يكون من المستحسن في رمضان الابتعاد عن لغو الحديث ولا أعلم في واقع الأمر إن كان البعض سيعتبر هذا المقال من لغو الحديث أم لا لكني عاهدت نفسي منذ خطرت الفكرة في رأسي أن اكتب عنها في رمضان ولا أعلم لماذا رمضان بالذات لكني شعرت أن الحديث عن "عبودية الراتب" في شهر يعتبره الكثير شهرا للإنفاق بشقيه الإيجابي (الزكاة والصدقة) والسلبي (الاستهلاك المبالغ فيه) كما أنه شهر فيه مناسبتان الصوم وعيد الفطر (في نهايته طبعا) لكنه دون شك يشكل ضغطا ماليا على كثير من الأسر وهو الأمر الذي سيجعل من الحديث عن الدخل الشهري مجالا للتسلية وحديثا ذا شجون في هذا الشهر الفضيل. في حقيقة الأمر لم أفهم معنى الراتب الشهري إلا بعد أن تخرج أخوتي في الجامعة وبدأوا في عمل حكومي منتظم وذلك منذ سنوات طويلة أما والدي (رحمه الله) فقد كان على باب الله وكان مثابرا يعمل طوال النهار صباحا ومساء في تجارته البسيطة التي كانت تنشط كثيرا في رمضان لكنه كان يشعر برضى شديد وحرية مابعدها حرية لأنه يكسب قوت يومه ويعرف أنه لاينتظر شيئا في نهاية الشهر بل عليه العمل كل اليوم وبنفس النشاط وإلا سوف يواجه مشكلة في إعالة أبنائه لكنه كان في غاية الرضى. لم يكن يدين لأحد بشيء ولا يحتاج أن يتملق رؤساءه ولا ينافق لأي كان وكان حرا طليقا يخطط لعمله ببساطة متناهية وينتظر رزقه طوال النهار والله يرزق من يشاء بغير حساب. ولا أستطيع أن اقارن بينه وبين أخوتي أو حتى من كنت أراهم وأنا صغير من الأقارب الذين يعملون في وظائف ثابته فقد كانت تبدو على مظهرهم سعة الرزق لكنهم يتأففون كثيرا من الالتزام بعمل بعضهم لايروق له لكنه مضطر من أجل الراتب الشهري وبعظهم مكتئب لأن رئيسه لا يحبه ويفكر كيف يعمل جاهدا لإرضائه (أكثر بكثير من تفكيره في ما ينتجه أثناء العمل) يعملون جميعا أقل من ثماني ساعات (أقصد الدوام الرسمي أم العمل الفعلي فحدث ولاحرج) لكنهم لايشعرون بالرضى لم أكن أعلم لماذا لكني فهمت بعد ذلك لأن الناس تزداد درجة استهلاكم مع مستوى دخلهم وكلما كان الدخل مضمونا كلما زادت المغامرة الاستهلاكية وهذا والله "بيت الداء". عبودية الراتب تبدأ من هنا من "الشراهة الاستهلاكية" فمبدأ "الذي تستغني عنه تملكه" توارى بعيدا عن الأذهان وأصبح المبدأ المباهاة في الاستهلاك حتى أصبح الدخل الشهري اساسا للحياة ونسي كثير من الناس أن "تسعة أعشار الرزق في التجارة" وأن "خيركم من أكل من عمل يده"، ولا أعلم ان كان البعض فكر في تقييم تجربته الاستهلاكية وهل فعلا جلبت له السعادة أم أنها أدخلته في نفق الديون المظلم وأبعدته كل البعد عن الرضى والقناعة والراحة النفسية. الثقافة الاستهلاكية تصنع ضغوطا كبيرة على الانسان وتكبله بقيود كثيرة حتى أنه لايتصور كيف ستكون حياته لو تأخر راتبه الشهري أياما قليلة، فطالما أنه قد ضمن الدخل الثابت أصبحت حياته مبرمجة على "الجاي على قد اللي رايح" وهذه سياسة تعمق "عبودية الراتب" وتوسع من الثقافة الاستهلاكية إلى درجة أنه يصعب تصور الحياة المجتمعية لو حدث أي خلل في مستوى الدخل، هناك فرق كبير بين أن أملك دخلي من خلال عملي الخاص وبين أن أنتظر راتب نهاية الشهر وأنا أعلم أني سوف أحصل على هذا الدخل عملت أم لم أعمل أنتجت أم لم أنتج، هذه الثقافة حولت مؤسسات الدولة إلى "قطاعات متنوعة للشؤون الاجتماعية" لأنه ابدا لم يكن هناك في يوم ثقافة "الجزاء على قدر العمل" بل أن السائد هو " الجزاء على قدر التملق والنفاق" والقرابة وغيرها من ظواهر لم تكن في يوم تحكم ثقافة العمل في مجتمعنا. كيف لاتتفشى الدعة وحب الراحة وكراهية العمل بين الشباب وهم يرون الجيل الذي سبقهم حصل على كل مايريد دون أن يعمل بجد، هل نستطيع إلقاء اللوم عليهم، لا وربي، فأنا كلما عمل معي شاب سعودي أنظر له بعين الشفقة فهو ضحية مجتمعية أراه يعاني معاناة شديد من عمل غير مرهق ويتأفف كثيرا من عمل مسل لايعرضه لحرارة الجو ولا يعرق فيه ولاينصب، يتأفف من مجرد البقاء على طاولة المكتب وتحريك بعض الملفات هنا وهناك ولا يستمر فترة طويلة دون انقطاعات متكررة عن العمل. أأسف كثيرا عندما أرى أن ما يحرك الشاب هو فقط "الراتب" لا العمل نفسه فهو يعتقد أن من حقه الحصول على المال دون أن يجهد نفسه مثل من سبقوه الذين حصلوا على العمل بسهولة ولم يضطروا للتنافس مع أحد لإثبات وجودهم وأصبحوا في صدارة المجتمع دون أن يعملوا كثيرا من اجل الحصول على هذه المكانة. عندما يقارن الشاب السعودي نفسه بهذا الجيل يشعر بالظلم لكنه لايعمل بجد من أجل رفع هذا الظلم وإثبات وجوده بل يستسلم لعبودية الراتب ويستكين لها وإن كان أصبح يعاني منها كثيرا هذه الأيام، لكنه يسمع في نفس الوقت كثيرا من اللوم والتقريع (مثلما افعل انا الآن) من الجيل الذي سبقه دون يقوم أحد بإصلاح شيء فيزداد حسرة على نفسه ويزداد تشبثا بثقافة الدعة والراحة ويرى أن من حقه أن يكون مثل من سبقوه. هناك تناقص في فرص العمل المنتظم وتناقص في ثقافة العمل بشكل عام، ويبدو أن الخمسة عقود الأخيرة فصلت بين ثقافة العمل التي كان عليها مجتمعنا، تلك الثقافة المبنية على الاجتهاد وتنمية المهارات الشخصية والسعي في الارض والتركيز على تسعة اعشار الرزق وبين ثقافة العمل الحالية التي تتكالب على العشر الباقي من الرزق فالكل يريد الوظيفة ويذهب طوعا إلى "عبودية الراتب" وهو مبتسم وراض لأنه لايرغب في العمل ولأن الثقافة الاستهلاكية التي تربى عليها تفرض عليه فروضا منتظمة تتطلب دخلا ثابتا ووقتا كثيرا للتسلية لأن ثقافة الاستهلاك مبنية على التسلية والترويح لا العمل والاجتهاد ويبدو أن هنا تناقضا واضحا لأن الاستهلاك العالي يتطلب وقتا خارج اوقات العمل لكنه يتطلب دخلا مستمرا وكبيرا، وبالتالي تشكلت ثقافة الشباب السعودي على الاستهلاك دون أي رغبة في العمل وهذه والله طامة كبرى أقف محتارا أمامها فكيف بربكم نقوم هذا الاعوجاج؟ أنا هنا لست ضد فكرة الراتب الشهري الثابت وهذه مسألة بديهية فالدخل مهم من أجل العيش لكني مع فكرة العمل الذي يصنع الدخل والمسألة هنا بسيطة من وجهة نظري فإذا كان الأساس هو العمل الذي يصنع الدخل أصبح الأمر هينا وصار الراتب وسيلة لاغاية فلا يتحكم في سلوكيات الفرد ويوجهه كيفما يشاء. الخطر هنا هو من "استعباد" الراتب لأخلاق الفرد ولنمط حياته ولمواقفه من الآخرين فكثير من الناس يعتبر العمل شيئا والراتب الشهري شيئا آخر، وهذا في حد ذاته نمط سلوكي لايفضي إلى أي تطور مجتمعي ولا يصنع أي تنمية حقيقية لأن عبودية الراتب تحول "اقتصاديات المجتمع" إلى مجرد "عمل وهمي" ليس فيه أي انتاج حقيقي.